سورة فاطر (35)
الدرس (10)
تفسير الآيات: (41 ـ 45)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس العاشر والأخير من سورة فاطر ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى في الآية الأربعين:
(سورة فاطر)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
1 ـ الكون معجزة :
الحقيقة أن هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، فالسماوات والأرض تعبير قرآني عن الكون ، والكون كل ما سوى الله ، الله واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، فالكون يعبر عنه القرآن الكريم بكلمة السماوات والأرض .
2 ـ كل مجرات الكون متحرِّكة خاضعة لنظام الجاذبية :
في أحدث البحوث العلمية المتعلقة بالفلك عدد المجرات يقترب من مليون مليون مجرة ، وعدد نجوم المجرة المتوسط يقترب من مليون مَليون ، وكل نجم في هذه المجرات يتحرك ، ولولا تحرك النجوم لأصبح الكون كتلةً واحدة ، لأن كل نجم حينما يتحرك ينشأ عن تحركه قوة نابذة ، هذه القوة النابذة تكافئ القوة الجاذبة ، لأن كل كتلة في الكون تنجذب إلى أختها ، وهذا نظام الجاذبية ، فالترابط بين النجوم أساسه الجاذبية ، فلولا حركة الكون لأصبح الكون كله كتلةً واحدة ، ولانضم بعضه إلى بعض ، فهذه الحركة الدائبة كل نجم يتحرك في مسار مغلق ، المسار غير مفتوح ، الخطوط غير المغلقة خطوط مفتوحة ، لأن الله جل جلاله يقول :
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾
يعني أنَّ أيَّ كوكب في السماء يتحرك في خط مغلق ، فيرجع إلى ما بدأ به .
الكون يقترب من مليُون مليون مجرة ، وهذا أحدث رقم ، وكلما تقدم العلم اكتشف عدداً أكبر من الذي اكتشف من قبل ، وفي كل مجرة ما يزيد على مليُون مليون كوكبونجم ، وكل هذه الأجرام تتحرك في مسارات مغلقة لينشأ من تحركها قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة ، هذه النجوم تتحرك في مسارات مغلقة ، وفي سرعات دقيقة ، لو اختلفت سرعاتها لانجذبت إلى الأرض .
أرجو أن تتحملونا قليلاً ، الموضوع علمي محض ، المسار إهليلجي على شكل بيضوي ، الأرض تدور حول الشمس في مسار بيضوي ، والمسار البيضوي له قطر أصغر وقطر أكبر ، فإذا وصلت الأرض إلى جهة القطب الأصغر فلابد من أن تنجذب إلى الشمس ، فماذا يحصل ؟ تزداد سرعتها ، من يزيد سرعتها ؟ الله جل جلاله ، تزداد سرعتها فتزداد قوة النبذ حتى تتكافأ مع قوة الجذب القوية ، إذاً لو اختلفت السرعة لانجذبت الأرض إلى الشمس ، فمن الذي يمسك هذه الأرض ؟ ولنأخذ الأرض مثلاً ولنبتعد عن بقية النجوم ، أرضنا تسير حول الشمس دورةً في كل عام ، وحينما قال الله جل جلاله :
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
(سورة البروج)
معنى : أَنْ تَزُولَا
أي أن الأرض في كل شهر تقابل برجاً من بروجالسماء ، وبروج السماء التي تسير في مجالها الأرض اثنا عشر برجاً ، ففي دورة الأرض حول الشمس تسير في مسار مغلق ، السؤال : إن الله خالق الكون يمسك السماوات والأرض أن تزولا .
المعنى الأول :
المعنى الأول : الزوال معناه الانحراف ، ووقت الظهيرة يكون مع زوال الشمس عن كبد السماء ، إذا كانت الشمس في كبد السماء فالصلاة مكروهة كراهةً تحريمية ، الصلوات مكروهة في ثلاثة أوقات ، عند طلوع الشمس حتى ترتفع ، وعند توسطها في كبد السماء حتى تزول ، وعند اصفرارها حتى تغيب ، في أوقات ثلاثةٍ الصلوات مكروهة كراهة تحريمية .
إذاً معنى الزوال ، زوال الشمس عن كبد السماء يعني انحراف الشمس :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
المعنى الثاني :
لو أن الأرض انحرفت عن خط سيرها أية قوة في الأرض تستطيع أن تعيدها إلى مسارها ؟ لو أن قطاراً خرج عن سكته أية نملة بإمكانها أن تعيده إلى مساره ؟
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
ما الذي يربط الأرض بالشمس ؟ هنا السؤال ، الذي يربط الأرض بالشمس قوة الجاذبية التي أشار إليها القرآن في سورة الرعد ، قال تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
(سورة الرعد : من الآية 2)
( ترونها ) قيدٌ لـ ( عمد ) ، فالأعمدة التي رفعت بها السماوات لا نراها ، لكنها موجودة .
بعض العلماء الأجانب قال : لو أن الشمس كفَّت عن جذب الأرض ، أو توقفت عن جذب الأرض فلابد لهذه الأرض من أن تزول عن سيرها ، أي أن تبتعد عن مسارها ، وأن تستمر في متاهات الفضاء الخارجي ، ما الذي يعيدها إلى حظيرة الشمس ؟ قال : تعيدها قوةٌ ، و هذه القوة تتمثل في مليون مليون حبل فولاذي ، من الفولاذ المضفور ، والفولاذ المضفور أمتن العناصر في الكون ، أي أمتن شيء في تحمل قوى الشد هو الفولاذ المضفور ، فالأرض تحتاج إلى مليون مًليون كبل أو حبل من الفولاذ المضفور ، والفولاذ المضفور يجب أن نزرعه على الأرض بينه وبين الشمس ، فيجب أن يكون هناك حبل بين الأرض والشمس طوله مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ، مليون مًليون حبل مزروع على وجه الأرض المقابل للشمس ، ما الذي يحصل ؟ نحن أمام غابة من الحبال الفولاذية ، بين كل حبلين مسافة حبل واحد ، الزراعة مستحيلة ، البناء مستحيل ، حتى هذه الغابة تحجب عنا أشعة الشمس ، وكل حبل يقاوم ملايين الأطنان .
ربنا عز وجل قال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
أيّ نجم لو خرج عن خط سيره لجذب إلى نجم آخر ، وهكذا ، إذاً لاجتمع الكون كله في كتلة واحدة فمن الذي يمسك السماوات والأرض أن تنحرف عن خط سيرها ؟
عندنا نقطة دقيقة : الكون أوجده الله من عدم ، هذه حقيقة ، لا شيء قبله ولا شيء بعده ، فالكون ممكنٌ ، وأوجده الله من عدم ، وعندنا خلق آخر ، إيجاده من عدم ، الخلق الآخر أن يستمر موجوداً ، أن يخلق من عدم خلقاً ، ثم لابد من أن يخلق خلقاً آخر يريد الله أن يستمر وجوده ، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون من لا شيء ، ثم أراد استمرار الكون ، فالاستمرار شيء آخر ، قد تنطلق من مركبتك شيء ، ولكن أن تبقى بها إلى ما شاء الله فهذا أمر آخر ، قد تحركها شيء ، ولكن أن تبقى تحركها شيء آخر .
الآية إذاً : ﴿ إِنَّ اللَّهَ ﴾ ، فهل تعرفون من هو الله ؟ هو خالق السماوات والأرض ، هو رب العالمين ، هو القوي ، هو القدير ، فهو يخلق خلقاً من عدم ، وهو يخلق خلقاً آخر ليستمر موجوداً .
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
أي نجم في حركته حول نجم آخر يسير على مسار مغلق من الذي يبقيه على هذا المسار المغلق ؟ هو الله سبحانه وتعالى ، لأن الأرض لو خرجت عن مسارها ما الذي يحصل ؟ ابتعدت عن الشمس ، ودخلت في الظلام الكوني ، وأصبحت حرارتها بتقدير بعض العلماء مائتين وسبعين درجة تحت الصفر ، وهذا ما يسميه علماء الفيزياء بالصفر المطلق ، وفي رأي علماء الفيزياء أن الصفر المطلق تتوقف فيه حركة الذرات ، ومتى توقفت حركة الذرات تلاشت المادة ، إذاً : إذا زالت الأرض عن مسارها زالت ، وفنيت ، فكم معنى عندنا لكلمة ( زالت ) ؟ معنيان المعنى الأول زال أي انحرف ، والمعنى الثاني زال أي تلاشى وفني .
الله جل في علاه هو وحده هو وحده الذي يحفظ الأرض وأي كوكب آخر على خط سيره ، أو أي نجم آخر على مساره المغلق فلو لم يكن هناك خالق خلق من عدم ثم أراد أن يستمر هذا الخلق والخلق مستمر إلى ما يشاء الله ، قال تعالى :
﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
(سورة يس)
إذاً : شاءت مشيئة الله أن يخلق هذا الكون ، وأن يستمر هذا الكون إلى أن يشاء الله زواله ، مادامت الأرض تسير حول الشمس ، وما دمتم ترون شمساً كل يوم فالأرض مع الشمس ، ولو أنها انحرفت عن خط سيرها لغابت عنا الشمس ، ولدخلنا في ظلام دامس ، وحينما تستيقظ صباحاً كل يوم على قرص الشمس في الأفق تذكر هذه الآية :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
لأنها لو خرجت لاحتجنا نظرياً طبعاً إلى مليون مَليون حبل فولاذي ، وكل كبل يتحمل قوى شد مليوني طن ، هي قوة جذب الشمس للأرض ، وكل هذه القوة من أجل أن تجعل الأرض تتحرك بخط منحنٍ ، وكل ثانية تنحرف ثلاثة مليمترات ، ويتشكل مسار الأرض المغلق حول الشمس ، أما لو أن الشمس كفَّتْ عن جذب الأرض لسارت في مسار مستقيم بعيداً عن خط سيرها السابق ، ولدخلت في ظلام دامس ، ولأصبحت حرارتها مئتين وسبعين درجة تحت الصفر ، ولتوقفت حركة الذرات ، ولزالت بمعنى فنيت بعد أن زالت بمعنى انحرفت ، فهناك معنيان للآية :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
أي أن يمسككل نجم عن أن ينحرف عن خط سيره ، ولو انحرف عن خط سيره لعمت الفوضى في عالم المجرات والكواكب ، ولاجتمع الكون كله في كتلة واحدة ، ولانتهت الحياة .
أما إذا انحرف كل كوكب عن خط سيره ، وسار في ظلمات الفضاء ، وأصبحت حرارته صفراً مطلقاً ، مائتين وسبعين تحت الصفر لتوقفت حركة الذرات الداخلية ، ولتلاشى الكون ، فلذلك هذه الآية كلما تقدم العلم كشف جوانب من عظمة خلق الله عز وجل .
إذاً : أن تستيقظ كل يوم ، وأن ترى الشمس مشرقة ، وأن ترى الضحى مشرقاً ، ثم تغيب الشمس ، ثم تشرق ، معنى ذلك أن الأرض لازالت على خط سيرها .
كلكم منذ أن نشأنا على التقويم الذي يقول لنا : شروق الشمس يوم ثلاثةٍ وعشرين من أيلول الساعة السادسة وثلاث وعشرين ثانية ، كل سنة منذ خمسين سنة ما تغير ، من مئة سنة ، منذ أن خلقت الأرض ، وإلى أن تتوقف عن حركتها تسير الأرض بهذا الخط المستمر ، إذاً : التقويم له معنى كبير ، فأنت تتنبأ بشروق الشمس قبل مئة عام بعد مائة عام يوم ثلاثة وعشرين من أيلول الشمس تشرق الساعة السادسة وثلاث وعشرين ثانية ، ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك :
﴿ إنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
خلق الكون من عدم وأراد أن يخلق خلقاً بعد الوجود ، إذاً فهناك خلق من عدم ، وخلقبعد الوجود ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
هل عرفتم من الله ؟ هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، هو الذي خلق من لا شيء ، واستمر الخلق بمشيئته هو .
الآية الكريمة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
المعنى الأول : الزوال ، الانحراف ، والمعنى الثاني الفناء ، إذا انحرفت الأرض عن خط سيرها زالت : فنيت ، لأن في متاهات الفضاء الخارجي درجة الصفر المطلق تنهي حركة الذرات ، وإذا انتهت حركة الذرات تلاشت المادة ، لأن كل مادة قوامها حركة الذرات حول النواة ، لها مجموعة مسارات ، مجموعة كهارب إلكترونات تتحرك بسرعات هائلة حول النويّات ، فإذا توقفت حركة الذرات تلاشى الكون ، قال تعالى :
﴿ وَلَئِنْ زَالَتَا ﴾
وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
أي إذا انحرفت الأرض أو أي كوكب آخر عن خط سيره المغلق حول الشمس ، أو حول أي كوكب آخر .
﴿ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ﴾
ليس في الكون جهة يمكنها أن تمسك السماء والأرض :
هذه ( إنْ ) نافية ، يعني ما أمسكهن أحد من بعد الله عز وجل ، أهل الأرض جميعاً لو أن الأرض انحرفت ، أو لو أن الشمس لم تعد تشرق ، فلو اجتمعوا بمؤتمرات وقرروا ، واتخذوا توصيات ، هل بإمكان أهل الأرض كلهم أن يعيدواالأرض إلى مسارها ، أو أن يحرفوها عن خط سيرها ؟ إذاً من هو الله ؟ الذي بيده هذه الأرض ، قال تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
(سورة الزمر)
لذلك :
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾
(سورة فاطر)
فهذه الآية إذا قرأها عالم فلكٍ ذابت نفسه خشوعاً لله عز وجل ، لأن هذه الآية تتفق مع أحدث الحقائق العلمية المتعلقة بالفلك ، وعظمة القرآن في كلمة ( تزول ) ، كلمة واحدة بمعنيين ، الانحراف ، أولاً يجعلها تخرج من مسارها ، ثم يجعلها تفنى إذا انحرفت عن خط سيرها .
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ﴾
ليس في الكون كله جهة مهما عظمت ومهما قويت بإمكانها أن تعيد الأرض إلى خط سيرها إذا انحرفت ، أو أن تخلقها ثانيةً إذا زالت وفنيت .
المعنى الأول : أن تعيدها إلى خط سيرها حول الشمس إذا انحرفت ، أو أن تخلقها ثانيةً إذا زالت أو فنيت .
﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41) ﴾
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
مع أن الله بيده أمر الأرض ، ومن قدرته أن يجعلها تزول ، لكن الله يرى عباده غارقين في المعاصي ، الفساد في البر ، والبحر ، وفي الجو ، الآن الطائرات تعرض أفلاماً في أثناء الطيران ، وربما كانت هذه الأفلام ماجنة ، الفساد ظهر في الأرض ، وفي البحر ، وفي الجو المعاصي ، الموبقات ، أكل المال الحرام ، الربا ، الزنا ، اللواط الخمر، المخدرات ، الميسر ، القمار ، الفتن ، الأرض تعج بالفتن ، وهو يحلم عليهم ، قال تعالى :
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
(سورة يونس)
لولا حلمُ الله ومغفرتُه :
الآن قد يسأل سائل : ما دام أنَّ الله عز وجل بيده هذه الأرض ، وفي أية لحظة قادر على أن يجعلها تزول ، حينما تنحرف عن خط سيرها ، أو حينما تتلاشى ذراتها ، فلماذا ربنا جل جلاله يرى عباده غارقين في المعاصي والآثام ، يناصبونه العداء ، يكفرون به ، يجحدون نعمه ، يعادون أولياءه ، وكيف لا يدمرهم ؟ جاء الجواب :
﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41) ﴾
الإنسان لا يتحمل ، الإنسان أحياناً يتمنى أن يسحق أعداءه سحقاً عن آخرهم ، والحروب الحديثة حروب إبادة لا هوادة فيها ولا رحمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام في الطائف جاءه جبريل ، وقال : يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، فلو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ، قال : لا يا أخي ، اللهم اهدِِ قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده .
النبي كان حليماً ، وربنا عز وجل حليم ، وإن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، فإذا رأيت هذه المفارقة فالأمور كلها بيدالله ، والسماوات كلها بيد الله ، وأرضنا بيد الله ، وحركتها بيد الله ، وسرعتها بيد الله .
لو أن الأرض أيها الإخوة لم تزدد سرعتها حينما تقترب من القطب الأصغر لانجذبت نحو الشمس ولاحترقت ، والأرض إذا دخلت في الشمس تبخرت في ثانية واحدة ، لأن الشمس حرارتها في السطح ستة آلاف درجة ، أما في الأعماق فعشرون مليون درجة ، نحن عندنا الحديد ينصهر بالألف وخمسمائة ، الحجر البازلتي الأسود الذي لا يمكن أن ينصهر ، ينصهر في ثلاث آلاف درجة ، ويصبح سائلاً ، الأرض بأكملها إذا دخلت في الشمس ستة آلاف درجة ، وفي أعماقها بعشرين مليون درجة ، تتبخر كلها في ثانية واحدة ، فلو أن سرعتها لم تزدد عند القطر الأدنى لانجذبت نحو الشمس ، واحترقت ، وتلاشت .
تقول : هذه الطائرة سقطت ، ومات جميع ركابها ، لو أن الأرض سقطت في الشمس لمات جميع سكان الأرض دفعةً واحدة:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
آية دقيقة جداً ما دمت ترى شروق الشمس كل يوم فالأرض على خط سيرها ، ومادامت لم تنحرف عن خط سيرها فأنت في نعمة وفي بحبوحة ، الذي يبقيها على حالها ربنا عز وجل، هو الذي يبقيها على خط سيرها والذي يبقيها موجودةً ، قائمةً ، لأن الله عز وجل يخلق ويأمر ببقاء الخلق ، والخلق مستمر إلى أن يشاء الله وهناك شيء آخر ، قال تعالى :
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾
(سورة التكوير)
الكون له نهاية ، وله بداية ، أما الآن فالكون مستمر والعلماء قالوا الشمس يرجح أنها متقدة منذ خمسة آلاف مليون عام ، والمرجح بحسب نظرياتهم أنها تبقى متقدة إلىما بعد خمسة آلاف مليون عام قادمة ، هذا معنى القرآن:
﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41) ﴾
حليم يصبر على عباده ، ومن أسماء الله الصبور ، حليم يتجاوز عن ذنوب عباده ، حليم يعطي لعباده فرصةً لعلهم يتوبوا ، فلذلك ربنا عز وجل يقول:
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾
(سورة طه)
ربنا عز وجل أعطى لكل إنسان أجلاً ، وأعطى كل أمة أجلاً ، وأعطى الكون كله أجلاً ، فكل واحد كفرد له أجل ، فإذا انتهى أجله لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ، كل واحد منا عنده لحظة النهاية ، وفي علم الله هذا الإنسان مقرر له أن يعيش ثلاثة وستين عاماً وثمانية أشهر ، وثلاثة أسابيع ، وخمسة أيام ، وثماني ساعات ، وأربع دقائق ، وثلاث ثوان ، فكل إنسان له أجل ، وكل أمة لها أجل ، والأمم تتعاور ، بالتعبير الفصيح : تأتي أمة ، وتذهب أمة ، كل قرن فيه أمم يتألق نجمها ، وأمم تذهب ، وتصبح خبراً ، كل أمة لها أجل ، والبشرية كلها لها أجل ، وهو قيام الساعة .
﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41) ﴾
حليم يعطي عباده فرصة ، أحياناً مدير يضيق ذرعاً بطالب فيفصله ، وهناك مدير أشد حلماً ، يعطيه فرصةً لعله يرجع ، لعله يغير من خطته ، لعله يجتهد ، لعله يلتزم ، لعله يتوب ، فكلما ازداد الكمال أعطى الكامل فرصة لمن حوله فلعلهم يرشدون .
﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا ﴾
يعطي الفرصة :
﴿ غَفُورًا ﴾
لو أنهم عادوا تائبين لغفر لهم .
﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ﴾
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ
هؤلاء العرب كفار مكة عاشوا مع اليهود، واليهود أهل كتاب ، وقد علمت العرب أن اليهود كذَّبوا رسلهم ، وقتلوهم ، ووقفوا موقفاً لا يليق بهم ، فكان العرب يقولون : لو جاءنا رسول لصدقناه ، ولآمنا به ، ولنصرناه ، ولا نكون كاليهود في تكذيبهم رسلهم ، وفي قتلهم أنبياءهم .
﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾
أي بالغوا في حلف الأيمان .
﴿ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ﴾
ويقصدون إحدى الأمم أهل الكتاب الذين جاءت رسلهم بالبينات فكذبوهم وقتلوهم .
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا(42) ﴾
فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا
وهو النبي عليه الصلاة والسلام ، بدل أن يؤمنوا به ، وأن يصدقوه وأن يوقرون ، وأن ينصروه ، وأن يتبعوه ، وأن يفرحوا به ، قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا(42) ﴾
النذير هو الرسول عليه الصلاة والسلام :
وهذه المفارقة سمة من سمات الكافر ، يقول لك : إذا الله أعطاني سأفعل كذا وكذا ، فالله يعطيه ولا يفعل ، إذا الله هداني لأفعلن ، إذا : الله أكرمني لأفعلن ، يسّوف ، وكما تعلمون هلك المسّوفون .
اسْتِكْبَارًا
1 ـ كفرُ الاستكبارِ :
لماذا لم يؤمنوا ؟ هنا السؤال ، جاءهم نذير معه القرآن الكريم ، معه دليل على أنه رسول ، معه معجزة ، لماذا لم يؤمنوا ؟ فقال الله عز وجل:
﴿ اسْتِكْبَارًا ﴾
2 ـ الكِبْر ينافي العبودية لله :
الإنسان بين حالين ، بين أن يكون عبداً لله وأن يستكبر ، فإذا استكبر فهذا تغلق دونه أبواب السماء ، إذا استكبر لم يلج في الإيمان ، إلا إذا ولج الجمل في سم الخياط ، هل يعقل أن يدخل الجمل في سم الخياط ـ ثقب الإبرة ـ هل هذا تعجيز ؟ لا ، إنه متكبر كالجمل حجماً ، ولن يستطيع أن تفتح له أبواب السماء إلا إذا عاد إلى حجمه الحقيقي ، وإلا إذا عاد عبداً لله عز وجل ، الذي زادهم نفوراً هو استكبارهم ، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، والإنسان يكون في أكمل أحواله حينما يكون عبداً لله ، حينما يعرف أنه فقير ، حينما يعرف فقره إلى الله عز وجل وحاجته إلى الله عز وجل ، وأنه جاهل ، والله هو الذي يعلم ، وأنه فقير ، والله هو الغني ، وأنه ضعيف ، والله هو القوي ، إذا عرفت حدك جاءتك الخيرات ، وجاءتك الإمدادات ، وجاءك الدعم الإلهي ، وجاءك التوفيق ، وجاءك النصر ، وجاءك التيسير ، أما إذا استكبرت فعندئذٍ تغلق أبواب السماء في وجه الإنسان ، قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ ﴾
قد يسأل سائل : لماذا يعفو الله عن ذنوب كثيرة ؟ أما الكبر فلا يقبله ، ولو كان طفيفاً ؟ عبدي إذا بلغت ذنوبك عنان السماء غفرت لك ولا أبالي ، قال تعالى :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
(سورة الزمر)
لماذا يغفر الله كل الذنوب مهما كثرت ، ولا يقبل ذرة كبر ؟ قيل : لأن الكبر يتناقض مع عبودية الإنسان ، إذا كان هناك طبخة يمكن أن يقل فيها مقدارٌ اللحم ، أو يزداد ، بعض مكونات هذا الطعام ممكن أن تزداد أو تقل ، يتفاوت الطعم ، لكن هذا الطعام لا يقبل نقطة واحدة من البترول ، وهناك أشياء تقبل الزيادة والنقصان ، ويتفاوت الطعم ، أما أن توضع مع الطعام مادة بترولية فيفسد الطعام كليّة ، ويلقى في سلة المهملات الإنسان قد يخطئ ، ولكن مادام معترفاً بذنبه ، مادام مستغفراً ، مادام خاضعاً لله ، مادام تائباً ، ما دام نادماً ، ما دام مبتهلاً ، ما دام يرجو الله عز وجل ، فالله عز وجل يقبله ، ويعفو عنه ، قال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
(سورة الأنفال)
أما المتكبر فقد تستنكف نفسه أن يستغفر الله عز وجل ، تستنكف نفسه أن يسجد لله عز وجل ، تستنكف نفسه أن يخضع للحق ، تستنكف نفسه أن يأتمر بأمر الله ، عندئذ يرفض ، الذي حمل بني إسرائيل على تكذيب أنبيائهم ، ورد دعواتهم استكباراً في الأرض ، ومع استكبارهم مَكْر السَّيِّئِ .
﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾
اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ
المتكبِّر ماكر وصاحب خديعةٍ :
المكر خطة يتبعها الماكر ليصرف خصمه عن قصده ، الله عز وجل قال:
﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
(سورة الأنفال)
الله عز وجل مكره كله خير ، لماذا ؟ لأنه قد يصرف عبده عن طريق الشر ، فإذا صرف الله عبده عن طريق الشر بخطة حكيمة ، فالله قد مكر به لكن مكر الله عز وجل يعود بالخير على عباده ، وهذا معنى قول الله عز وجل :
﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
(سورة الأنفال)
لكن الإنسان الكافر البعيد عن الله عز وجل يمكر ليصرف الآخرين عن طريق الخير ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
(سورة آل عمران)
هؤلاء :
﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه
اسمعوا لهذه الفقرة من الآية :
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
هذا كلام لو صدقناه ، لو أدركنا أنه قطعي الثبوت والدلالة .
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
يتوقف الماكر فوراً عن مكره ، لماذا ؟ الآن هناك بعض الأمم تمكر ببعض الأمم الأخرى ، الأمم الماكرة تأتيها أمراض وانحرافات وتمزقات داخلية أكثر من الأمم التي مكرت بها :
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
المكر يدور ويدور ، فقد يسأل سائل : حينما يمكر إنسان بإنسان هذا الذي مكر به ، ألا يناله السوء ؟ نقول : نعم ، ولكن هذا السوء ينتهي بالموت ، أما الذي مكر فيعذب بمكره إلى أبد الآبدين ، المكر السيئ .
كأن ترى دولاً ضعيفة ودولاً سيئة ، شعوباً ضعيفة جداً يمكر بها بخيراتها ، بثرواتها ، بمقدراتها ، يبقيها الآخرون جاهلة ، يبقيها الآخرون ضعيفة ، هؤلاء تضرروا ، نقول : هؤلاء الماكرون الذين مكروا مكر السوء سيعذبون بمكرهم إلى أبد الآبدين ، وهؤلاء الذين مُكر بهم ، وتحملوا بعض المتاعب من مكر الآخرين بهم هؤلاء حينما تنتهي حياتهم ، تنتهي آثار المكر الذي لحق بهم ، وتبقى حياتهم الأبدية في منجاة مما مكر بهم ، لكن الشيء الدقيق :
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
كلام خالق الكون ، أي عملية مكر أو خداع ، يخادعون الله ، وما :
﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾
(سورة البقرة)
﴿ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾
(سورة الفتح : من الآية 10)
﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
(سورة الأنفال)
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
لذلك قيل : فاعل الخير خير من الخير ، لأن الخير مهما كان عظيماً ينتهي مع نهاية العالم ، لكن الذي فعل الخير يسعد بفعله إلى أبد الآبدين ، إذاً : فاعل الخير خير من الخير نفسه ، وفاعل الشر شر من الشر ، فالذي أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية مضى على إلقائها أعتقد أكثر من خمسين عاماً ، الذين ماتوا وقتها لو أن هذه القنبلة لم تلقَ عليهم فلابد من أن يموتوا ، الآن انتهت أعمارهم ، إذاً : أثر هذه القنبلة يكون قد انتهى ، أما الذي أمر بإلقائها ليدمر ثلاثمائة ألف إنسان في ثانية واحدة ، هذا يشقى بقراره إلى أبد الآبدين ، إذاً : فاعل الشر شر من الشر ، وفاعل الخير خير من الخير ، الإنسان يسعد إلى الأبد بأعماله الصالحة قد ويشقى إلى الأبد بأعماله السيئة .
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾
وأعتقد أنكم سألتم ، أو اطّلعتم ، أو إذا تتبعتم لوجدتم أن حياتنا طافحة بقصص تؤكد هذه الآية ، لذلك ورد في بعض الأدعية : اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم ، الكافر يفكر ، ويخطط ، ويشتغل ، وبسبب تخطيطه وتدبيره ومكره يدمر ، اجعل تدميرهم في تدبيرهم ، واجعل الدائرة تدور عليهم .
﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
(سورة الأنفال)
أنا أشعر لو أن الإنسان أيقن بهذه الآية لما استطاع أن يمكر بإنسان ، لأن آثار المكر سوف تعود عليه شاء أم أبى ، وأنا موقن أنه لو تتبعنا كل ماكر لرأيناه يدمر نفسه بهذاالمكر ، لكن لو رأيته إلى حين متفوقاً مستعلياً ، يتيه بمكره لقد فعلت كذا ، وفعلت كذا ، هذا إلى حين ، فإذا شد الحبل أصبح في قبضة الله عز وجل ، ودفع ثمن مكره غالياً .
يجب أن تؤمن أيها الأخ الكريم أن زوال الكون أهون عند الله من أن يضيع مؤمناً ، ومن أن يقوي ماكراً ، الماكر مدمر ، لذلك الآية الدقيقة :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة الأعراف)
﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43) ﴾
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً
هذهالثوابت ، المؤمن يوجد في حياته ثوابت يعني سنة الله في خلقه أن كل ماكر يحيق مكره به ، وأن كل مخادع يخدع نفسه ، وأن كل ناكث ينكث على نفسه ، وأن كل منافق يدفع ثمن نفاقه هو ، قال تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾
(سورة الجاثية)
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾
(سورة الروم)
إذا أيقنا بذلك توقف الإنسان فوراً عن كل مكر ، وعن كل سيئة وعن كل تدبير ، وعن كل مخادعة ، وعن كل نقض لعهد الله عز وجل ، العلماء قالوا في قوله تعالى :
﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
1 ـ لا تُبدَّل سننُ الله :
أي أن هذا القانون لا يبدل ، من شأن الناس أن يبدلوا القوانين يعدلوها ، يعطلوها ، أحياناً يعطل هذا القانون ، ويوقف التنفيذ به إلى إشعار آخر ، تعدل بعض مواده ، أحياناً لا يعمل إلى حين استبداله ، فإما أن يعطل ، وإما أن يعدل ، وإما أن يبدل ، وإما أن يفسر تفسيراً ما ، لكن الأمر يختلف مع قوانين الله عز وجل ، فقوانين الله عز وجل أو سنن الله عز وجل لن تجد لها تبديلاً .
أنت مؤمن ، وتعاملك مع خالق ، مع إله ، مع رب ، هذا الرب الخالق الرب الإله قوانينه ثابتة مستمرة ، لا تتبدل بتبدل الأيام ، أو الشهور ، أو الأمكنة ، أو الأزمنة ، أينما ذهبت في أي عصر ، وفي أي مصر ، في أي إقليم ، قديماً حديثاً ، في القرى ، في الأرياف ، في دول متقدمة ، مع العلم ، مع الجهل ، قوانين الله عز وجل نافذة لا يوقف العمل بها إطلاقاً ، فالماكر يحيق مكره به .
﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43) ﴾
المذنب يعاقب ، ولن يعاقب المحسن مكان المذنب ، فهذا القانون لا يعطل ، ولا يتحول إلى جهة بريئة ، القوانين الصارمة التي قننها الله عز وجل لا يعطلها ، ولا يحولها إلى جهات بريئة لا تستحقها ، فهناك عدالة مطلقة في السماء ، سبحان الله ! هذه لن للمستقبل أيضاً ، لن تفيد تأبيد النفي ، لكنك أيها الإنسان لن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد أيها الإنسان لسنة الله تحويلا ، فالإنسان العاقل إذا قرأ القرآن ، وقرأ مثل هذه الآية يطمئن .
أمثلة لقوانين الله وسننه :
مثلاً : هناك بعض الآيات تأخذ طابع القانون .
المثال الأول :
قال تعالى :
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
(سورة يونس)
هذا قانون أول .
المثال الثاني :
وقال تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
(سورة النحل)
هذا قانون ثانٍ .
المثال الثالث :
قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
(سورة طه)
هذا قانون ثالث .
المثال الرابع :
قال تعالى :
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾
(سورة يوسف)
وهذا قانون رابع ، لا بد للخائن من أن يفتضح ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين :
المثال الخامس :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾
(سورة الحج)
فإذا قرأ الإنسان القرآن ، وتتبع القوانين التي وردت فيه ، هذه القوانين هي سنن الله عز وجل لن تبدل ، ولنتحول ، فالسعيد من صدقها ، وعمل بها فنجا ، والشقي من لم يصدقها ، وكذبها ، ولم يعمل بها فهلك .
الملخص : هذه تعليمات الصانع ، هذه قوانين الله عز وجل ، هذه سننه ، هذه الثوابت ، كيف أن عندنا قاعدة مثلاً : المعادن تتمدد بالحرارة ، هذا قانون فيزيائي ، فأي مهندس لم يضع فواصل تمدد في أي بناء ، البناء ينهار ، هذا قانون ثابت ، فإما أن تصدقه ، وتأخذ به ، ويسلم بناؤك ، وإما أن تكذبه ، ولا تأخذ به ، فينهار بناؤك ، وعلى هذه الشاكلة قوانين ربنا كلها ثابتة ، لذلك البشر نوعان : موصول بالله محسن منضبط بأمر الله ونهيه ، ناجٍ ، سعيد ؛ والآخر منقطع ، متفلت من قوانين الله ، مسيء ، شقي في الدنيا والآخرة ، وليس هناك شخص ثالث .
يجب أن نأخذ هذه الآية مأخذاً كافياً :
﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43) ﴾
لو ذهبت إلى بلاد الغرب ، إلى بلاد الشرق بعد مائة عام ، بعد ألف عام ، في أي حال ؛ لذلك كنت أضرب مثلاً بسيطاً ، رجل كذب قانون السقوط ، وقال : هذا قانون غير صحيح ، هذا قانون وضعه دجال ، فأنا سأهبط من الطائرة بلا مظلة ، لأن ذاك القانون ليس له أصل ، طبعاً المظلة مبنية على قانون السقوط على حجز كمية هواء كبيرة جداً تتناسب مع وزن الإنسان ، فينزل بتباطؤ ، فإذا رجل كذب هذا القانون فألقى بنفسه من الطائرة من دون مظلة ، إذا كذب بهذا القانون فهل يتوقف مفعول هذا القانون ؟ لا ، بل تدق رقبته ، إن تكذيب القانون لا يعطل مفعوله ، وكل إنسان كذب بأوامر الله عز و جل ، كأن قال لك : غضّ البصر كلام لا يتناسب مع العصر ، إذا قبلت منه ، وخالفت هذا القانون وجدت الشقاء الزوجي في بيتك ، يمحق الله الربا قانون ، لابد من محق المال ، والله يربي الصدقات ، ولابد من أن ينمو المال الذي فيه صدقات .
أتمنى على إخواننا الكرام أن يقرؤوا القرآن ، وينتبهوا للقوانين ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
(سورة الإسراء : من الآية 9)
هذا قانون ، قال تعالى :
﴿ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
(سورة طه)
كلما وجدت آية تأخذ طابع القانون ، طابع السنة الثابتة ، طابع المبدأ ، طابع القانون الثابت ، التقطتها واكتبها ، وانتبه فإنه كلام خالق الكون ، كلام من بيده كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والقادر على إنفاذ كل حكم .
﴿ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
هذه الأمم ، إذا زار إنسان مصر ، ورأى الأهرامات ، ودخل إليها ، ودخل إلى مقابر الفراعنة يعلم من هم الفراعنة ، أهرامات جلبت أحجارها من أسوان ، ونقلت من شاطئ نهر النيل إلى مسافة تزيد على ستة عشر كيلو متراً ، وكل حجر حجمه نصف هذا المسجد ، كيف حمل ؟ وكيف رفع ؟ وكيف أصبح هذا الهرم ؟ وكيف أن الشمس تدخله في يوم واحد ؟ إذا أحضرت كل مهندسي العالم ، هل يمكن أن تصنع نافذة لبناء بحسب حركة الشمس أن تدخل الشمس إلى هذا البناء في يوم واحد ، هناك أشياء في الحضارات السابقة تكاد تكون معجزة ، ومع ذلك أهلكهم الله عز وجل ، ودمرهم ، وجعلهم أحاديث ، طبعاً كل أمة لم تؤمن بالله عز وجل مهما كانت قوية تدمر ، أو ما رأيتم كيف أن أمماً كبرى وعظمى دمرت في سنتين ، وانتهت ، يقول لك : كانت تسمى من قبل كذا ، فالله عز وجل يدمر أمماً ، وشعوباً ، وأقوى الكيانات.
﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44) ﴾
علمه يطولك ، وقدرته تطولك ، والإنسان إذا أيقن أن علم الله يطوله ، و أن قدرته تطوله فلابد من أن يستقيم ، قال تعالى :
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾
(سورة النحل ، من الآية 61)
أنت لديك فسحة في العمر إلى أجل معلوم ، ولك أن تؤمن ، ولك ألا تؤمن ، ولك أن تكفر ، لك أن تشرك ، ولك أن تجحد ، لك أن تلحد ، لك أن تستقيم ، لك أن تحسن ، لك أن تصلي ، لك ألا تصلي ، أنت مخير ، لك عند الله هذا الأجل ، لكن حينما ينتهي الأجل يبدأ الجزاء ، قال تعالى :
﴿ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾
أنت الآن في دار عمل ، و سوف يأتي الجزاء ، فهذه دار تكليف ، وهناك دار تشريف ، لذلك:
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾
(سورة الفاتحة)
انتهى الخيار ، وبدأ الجزاء ، و نرجو الله سبحانه و تعالى أن نعرف حقيقة هذه الدنيا ، وأن نعرف سر وجودنا فيها ، و أن نعمل صالحاً يرضي الله عز وجل .
والحمد لله رب العالمين
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾