سورة الصافات(037)
الدرس (9)
تفسير الآيات: (99 ـ 113)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس التاسع من سورة الصَّافَّات ، ومع الآية التاسعة والتسعين.
المقصود من قصص القرآن العبرُ :
لا زلنا في قصَّة سيدنا إبراهيم ، في الدرس السابق تحدَّثنا عن قصَّةٍ جرت له مع قومه حينما ألقوه في النار ، وقال الله عزَّ وجل :
﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) ﴾
(سورة الأنبياء)
ومرَّةً ثانية وثالثة : أتمنَّى أن أوضِّح لكم هذه الفكرة ، إنَّ أية قصَّةٍ في القرآن الكريم ليست مقصودةً لذاتها ؛ بل مطلوبةً للعبرة التي يمكن أن تُستنبط منها ، لأن هذه العبرة يمكن أن تُطَبَّق في حياتنا ..
﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) ﴾
معية الله للمؤمن في الشدة :
بشكلٍ أو بآخر يمكن أن يواجه المؤمن صعوبةً ، مشكلةً ، خطراً ، شبح مصيبةٍ ، أن يواجه مؤامرةً مثلاً ، كيْداً ، فالله جلَّ جلاله يُبطل الكيد ، ويزيل الخطر ، ويصرف المرض ، هذه كرامة المؤمن على الله عزَّ وجل ، لكن خرق العادات إذا جرى مع الأنبياء فهو معجزة ، وإذا جرى مع المؤمنين فهو كرامة ، وهذا الذي عبَّر عنه الله جلَّ جلاله في بعض الآيات الكريمة إذ يقول :
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
(سورة إبراهيم : من الآية 5)
يوم دعوتَهُ وقد أُحْكِمَت حلقاتُ المصيبة ، فاستجاب لك ، وفرَّج عنك .
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) ﴾
(سورة الطلاق)
كلمة " مخرج " تعني أن الأمور مغلقة ، الحلقة محكمة ، الأبواب مُغَلَّقة ، السُبل مسدودة ، الطرق موصدة ، كلمة : " يجعل له مخرجاً " ، أي بعد إذ لم يكن هناك مخرج ، الحلقات محكمة ، الطرق كلُّها مسدودة ، فلذلك هذه القصَة ليست مقصودة لذاتها ؛ بل يجب أن نستنبط منها أن الله سبحانه وتعالى ينجي المؤمنين .
فيما يشبهها قصة سيدنا يونس عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام حينما كان في بطن الحوت ، في ظلماتٍ ثلاث ..
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ ﴾
الآن ربنا عزَّ وجل أراد من هذه القصَّة أن يجعلها قانوناً ، قال:
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
إذاً : أنا حينما أقول لكم:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) ﴾
(سورة الأنبياء)
وكذلك كلَّما ضاقت بك الأمور ، كلَّما استحكمت حلقات المصائب ، كلَّما رأيت الطُرق مسدودةً ، كلَّما رأيت المعابر موصَدةً ، كلَّما رأيت أن الأمر ضاق ، لعلَّ الله جلَّ جلاله يخرق لك العادات ، وينجيك من عدوِّك ، ومما يحاك لك ، وأنت لا تدري.
إذاً : كن مع الله تَرَ الله معك ، أخلِصْ له تشعر أنه معك ؛ معك بالتأييد ، ومعك بالنصر ، ومعك بالتوفيق ، ومعك بالحفظ .
الآن : درسٌ آخر يُستنبط من دروس هذه القصَّة ..
﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَسْفَلِينَ ﴾
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
دائماً العاقبة للمتقين ، ثمَّ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
لكن هذه كيف تقع معنا ؟ كيف يقول أحدنا : إني ذاهبٌ إلى ربي ؟ أيْ إذا توَجَّه أحدنا إلى بيتٍ من بيوت الله ليصلي ، توجَّه ليحضر مجلس علم ، توجَه إلى الفلاة ليناجي ربَّه ، توجَّه إلى غرفةٍ قَصيَّةٍ في البيت ليصلي قيام الليل ، إن توجَّه إلى غرفةٍ قصيَّةٍ في البيت ذهب إلى ربِّه ، وإن توجَّه إلى فلاةٍ ليناجي ربَّه وليذكره ذهب إلى ربه ، وإذا توجَّه إلى بيتٍ من بيوت الله لا يقصد منفعةً ، ولا دنيا ، ولا حلَّ مشكلةٍ ؛ إنما يقصد مرضاة الله عزَّ وجل فكأنه ذاهبٌ إلى الله عزَّ وجل ..
((إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوَّارها هم عمَّارها ، فطوبى لعبدٍ تطهَّر في بيته ثمَّ زارني ، وحُقَّ على المزورِ أن يُكرِم الزائر )) .
[ ورد في الأثر ]
إذا توجَّه الإنسان إلى أحد بيوت الله لا يرجو دنيا ؛ بل لا يخرج إلا ابتغاء مرضاة الله ، فالله جلَّ جلاله سيرحمه ، سيتجلَّى عليه ، سينوِّر قلبه ، سيوفِّقه في أعماله الدنيويَّة ، سيمنحه الرضى ، يمنحه القُرب .
فأنا تذوَّقت هذه الكلمة:
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
من ذهب إلى البلاد المقدَّسة لأداء فريضة الحج لا يبتغي تجارةً ؛ لا يذهب إلا ابتغاء وجه الله عزَّ وجل ، فكأنه ذاهبٌ إلى الله عزَّ وجل ، وكذلك إذا توجَّهتَ إلى أخٍ كريم لتذكُر معه الله عزَّ وجل ، لتتذاكر وإيَّاه آيات القرآن الكريم ، لكن الإنسان يتحرَّك ؛ إلى عمله ، إلى قضاء حاجاته ، إلى تحقيق مصالحه ، إلى شراء بيت ، إلى عقد صفقة ، إلى بيع صفقة ، إلى نُزهةٍ ، هذه حركة يبتغي بها الدنيا ، أفلا ينبغي أن يكون للمؤمن حركةٌ إلى الله ؟ سعيٌ إلى الله ؟ توجُّهٌ إلى الله ؟
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
قال بعض العلماء : الحجُّ رحلةٌ إلى الله ، ومثله إن توجَّهتَ إلى الفلاة لتبتعد عن الناس ، وتقطع علائق البشر وتناجي الله عزَّ وجل ..
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
إن توجَّهت إلى غرفةٍ قصيَّةٍ تذكر الله فيها ، بعيداً عن ضوضاء الأولاد .
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
إن وقفت في الصلاة تناجي ربك بخشوعٍ ..
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾
سيدنا إبراهيم قال:
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾
العلماء قالوا : إنه إن أيقن بالموت فذهابه إلى الله عزَّ وجل يعني أنه ملاقٍ اللهَ عزَّ وجل ، وسيهديني إلى الجنَّة ، وإن خاف قومه ، وتوجَّه بعيداً عنهم :
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾
لينجيني من مكرهم ، وبأسهم ، وكيدهم .
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
وبعدُ ، هذه دعوة الأنبياء ..
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ
لابد أن تترك ولدا صالحا ينوب عنك بعد موتك :
فالذي رزقه الله مولوداً ذكراً كان أو أنثى ، فهذا أعظم رزقٍ يُرْزَقه المؤمن ؛ أن يكون له ولدٌ صالح ، ولدٌ يُعَلَّم الناس من بعده ، ولدٌ ينفع الناس من بعده ، أجل هذا أعظم كسب المؤمن في الحياة ، لذلك الدعوة إلى الله إذا تولاَّها أناسٌ كابراً عن كابر ، وخلفاً عن سَلَف لتبقي مستمرَّة ، فيجب أن تهيئ من يدعو إلى الله من بعدك ، يجب أن تهيئ من ينوب عنك في غيبتك ، هذا معنى :
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾
إنه لم يُرْزَق غلاماً من قبل ، فقال : يا رب هب لي من الصالحين ، هب لي غلاماً صالحاً ينفع الناس من بعدي ، وكل أبٍ منكم إن رأى ولده صالحاً ، منيباً ، طائعاً ، مقبلاً على العلم ، هذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها ، ربَّما الذي كان عنده مثل هذا الولد لا يعرف هذه النعمة ؛ لكن نعمة الولد الصالح لا يعرفها إلا من فقدها ..
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾
أيْ ولدٌ يا ربيصلح لرحمتك ، يصلح لرحمتك ، ويُصْلِحُ الله به الناس ..
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾
1 ـ الحلم سيِّدُ الأخلاق :
الحِلم كما قال عليه الصلاة والسلام:
((الحلم سيِّدُ الأخلاق )) .
(( كاد الحليم أن يكون نبياً )) .
[ من الجامع الصغير عن أنس ]
والحِلم لا يتأتَّى إلا عن الإيمان ، فالمؤمن حليم ، لماذا ؟ لأنه يتخلَّق بأخلاق الله عزَّ وجل ، ولأنه يرى أن الأمر كلَّه بيد الله ، وأن أيَّ شيءٍ وقع أراده الله ، الذي وقع أراده الله ، والذي لم يقع لم يرد الله وقوعه ..
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ )) .
[مسند أحمد عن أبي الدرداء ]
2 ـ الحلم يتأتّى بالإيمان :
هذا هو الإيمان ، فمن أين يأتي الحلم ؟ من الإيمان ، هذا الكون تعمل به يدٌ واحدة هي يد الله ، كل شيءٍ تراه عينك إنما هو صوَر ، لكن الله عزَّ وجل هو الحقيقة الأولى والأخيرة في الكون ، الله هو الرافع ، هو الخافض ، هو المعزُّ ، هو المذلُّ ، هو الرزَّاقُ ، هو الباسط ، هو القابض ، هو المحيي ، هو المميت ، هو الموفِّق ، كل شيءٍ بيد الله عزَّ وجل ، فلذلك الحليم يرى أن يد الله تعمل في الخفاء ، الحليم يحترم مشيئة الله عزَّ وجل، يحترم إرادة الله عزَّ وجل ، لماذا هو حليم ؟ لأنه يعلم علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله ، وأن كلَّ ما أراده الله وقع ، وأن إرادةَ الله عزَّ وجل تنطلق من حكمته المُطلقة ، وأن حكمته المطلقة تتوافق مع الخير المطلق ، لذلك هو حليم ..
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾
فالذي عنده ابن فليعتنِ به كثيراً ، يعتني بتعليمه دينَه ، يعتني بتربيته التربية الصالحة ، يعتني بأخلاقه ، يراقبه ، يبذل وقتاً لتعريفه بالله عزَّ وجل ، لأن هذا الابن إذا نشأ صالحاً هو أثمن ثروةٍ يملكها الإنسان في الدنيا والآخرة ..
((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَه )) .
[من سنن الترمذي عن أبي هريرة]
أحدنا إذا رأى الرجلُ ابنه يصلي طواعيةً ، مبادرةً منه ، إذا رأى ابنه اصطلح مع الله ، يمتلئ قلبه سعادةً ، تقرُّ عينه به ، فكيف إذا كان النبيُّ الكريم سيدنا إبراهيم قد رزقه الله نبيَّاً مثله ؟ نبيَّاً حليماً ، لعله ليس من علاقة أسمى ، ولا من درجة من المودَّة والقُرب تفوق هذه العلاقة ، أوّلاً ابن ، وثانياً كماله كمال أنبياء ..
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾
الآن:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ
أي أنّه أصبح شاباً يسعى معه في الدعوة إلى الله ، يسعى معه في إرشاد الخلق إلى الله عزَّ وجل ، أو يسعى معه في حركته اليوميَّة ، أي أنَّه أصبح راشداً ..
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾
الحقيقة أننا الآن دخلنا في موضوع العبوديَّة لله عزَّ وجل ، ربنا عزَّ وجل حينما أمرنا ، وحينما نهانا أعطانا الحِكَم ، وبيّن لنا العِلَل ، قال مثلاً :
﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
(سورة العنكبوت : من الآية45)
1 ـ بيان العلل من الأمر والنهي :
كأن الله عزَّ وجل يقول : يا عبادي صلوا ، لأن الصلاة تنهاكم عن الفحشاء والمنكر ، هذا أمر ، وهو أمر مُعَلَّل ، تُقبِل على تطبيقه طواعيَّةً لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) ﴾
(سورة البقرة)
أمرك أن تصوم ، وبيَّن لك أن الصيام ينقلك إلى مرتبة التقوى ، أمرك أن تزكّي فقال تعالى:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
(سورة التوبة : من الآية 103)
تطهرهم وتزكيهم ، الناس يأتيهم أمر الله المنطقي ، المعقول ، المبيَّن ، المفصَّل ، المعلَّل ، ومع ذلك يتوانون في تطبيقه ، فكيف إذا جاءك أمرٌ لا يبدو لك منطقياً ؟ لا يبدو لك مُعَلَّلاً ؟
1 ـ طاعة الله في الأمر والنهي من تمام العبودية :
بشكل مقرَّب : مناسك الحج ، الإنسان أحياناً يقول : لِمَ أنا أطوف حول البيت ؟ ولمَ أرشق إبليس بالحجارة ؟ ولمَ أسعى بين الصفا والمروة ؟ ولمَ أهرول ؟ فهذا الإنسان الذي لا يحتمل أمراً لا يرى تعليله ، ولا منطقيَّته ، ولا تفسيره ، هذا الإنسان بعيدٌ عن مقام العبوديَّة لله عزَّ وجل ، أليس أي أمرٍ لله عزَّ وجل علَّته الكبرى أنه أمر الله عزَّ وجل ؟
هذا الذي لا يطبِّق أمر الله إلا إذا رآه منطقياً ، لا يطبِّق أمر الله إلا إذا رأى نفعه ملموساً بيده ، لا يطبق أمر الله إلا إذا راق له ، هذا ليس عبداً لله ، هذا عبدٌ لنفسه ، لمصلحته ، فقد تجد في أوامر الدين أمراً لا تراه بعقلك القاصر معلَّلاً ، هذا امتحان ، مثل هذا الأمر يمتحن عبوديَّتك لله عزَّ وجل ، فمثلاً :
لو أمر الأب ابنه أن ينظِّف أسنانه قبل أن ينام ، طبعاً الأب يقول له : يا بني ، إن أسنانك ثروةٌ ثمينة ، فإن اعتنيت بنظافتها تمتَّعت بها طوال حياتك وإلا ؟ لا تكن مثلي ـ وضعت بدلة مثلاً ـ فكلَّما أهملتَ تنظيف أسنانك خلعتَ أسنانك واحدة واحدة ، فحينما يأمر الأب ابنه بتنظيف أسنانه يعطيه التعليل ، يعطيه التفسير ، يبيِّن ، يا بُنَي كن صادقاً حتى تنتزع إعجاب الناس واحترامهم ، يا بني اجتهد لأن رتبة العلم أعلى الرُتَب ، كل هذه الأوامر يُلقيها الأب على ابنه معلَّلةً .
لو أن هذا الابن جاء ليأكل مع والديه فقال له : يا بني لا تأكل معنا اجلس هناك ، هذا أمر غير منطقي ، فما السبب ؟ أنا جائع ، والطعام موجود ، وليس معكما أحد ، لماذا لا آكل ؟ هذا الأمر غير المنطقي ، وغير الواقعي ، غير المعلَّل هذا الأمر يمتحن طواعية الابن لأبيه ، هناك ابن يقول : لماذا لا آكل معكم ؟ فأنا لا أجد مانعاً ، أقنعني ، هناك ابن مستواه أرقى بكثير يقول له : سمعاً وطاعةً يا والدي ، ولو لم يفهم ، أيهما أرقى في الطاعة ؟ الذي امتثل أمر والديه دون أن يفهم حكمتهما .
يا أيها الإخوة الأكارم ، هذا موضوعٌ دقيق ، فالله عزَّ وجل أمرنا بأوامر منطقيَّة ، ومعقولة ، وواضحة ، وبيِّنة ، نتائجها ملموسة ، معلَّلة في القرآن ، ومعظم الناس يتوانون عن الأخذ بها ، لكن أحبابه الذين ذابوا في حبِّه ، وأقبلوا عليه ، واستسلموا لمشيئته ، وسبحوا في أسمائه الحُسنى ، وفنيت ذواتهم في القرب منه ، هؤلاء مستعدون أن يضحوا بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، امتثالاً لأمر الله عزَّ وجل ، لذلك هذا نموذج من الحب ، نموذج من القرب ، نموذج من العبوديَّة لله عزَّ وجل .
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فعلى أي مقياس لا يُقْبَل هذا الأمر ، ابنه ، فلذة كبده ، ابنه الوحيد الذي بشَّره الله به ، ابنٌ كامل ، نبيٌّ كريم ، لماذا أذبحه ؟ الآن إذا أحد الآباء قال لابنه : والله أنا سأذبحك يا ابني ، يقول لك : أبي جُنَّ ، فبأيّ مستوى إذا كان إبراهيم وابنه ؟
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾
رؤيا الأنبياء أمر ، وبعض العلماء قال : إنه لم يقل : إني رأيت في المنام أني أذبحك ، بل قال :
﴿ إِنِّي أَرَى ﴾
أني رأيت الرؤيا مرَّةً ومرَّتين وثلاث مرَّات ..
﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾
استمعوا إلى كلام الابن .
﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ
1 ـ الطاعة المطلقة من إسماعيل لأبيه عليهما السلام :
هذا أب ، وهذا ابن ، وهذا هو الإيمان ، وإذا قال الله ، هذه حرام ، فيجب ألاّ تقول : لماذا ؟ أمّا ضعيفُ الإيمان فيقول لك : لماذا حرام ؟ إنها غير منطقيَّة ، هذا قرض استثماري ، وليس قرضاً استهلاكياً ، يتفلسف على الله أيضاً ، فالله حرَّم الربا ، ويقول لك : هذا قرض استثماري ، وليس قرضاً استهلاكياً ، لماذا لا يكون هناك اختلاط ؟ هذه مثل أختي ؟ كلَّما جاء أمر يقيِّد حركته يتفلسف ، يريد بزعمهِ أن يكون الأمر منطقياً ، هذا الذي لا يطبِّق إلا ما يروق له ، وما يحلو له ، ليس عبداً لله عزَّ وجل ، ربنا عزَّ وجل أطلعنا في هذه السورة على نموذج من العبوديَّة لله عزَّ وجل ، لا أعتقد أن هناك أمراً أبعد عن المنطق ، أبعد عن الرحمة ، أبعد عن القبول كهذا الأمر :
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾
نحن لننظر إلى حالنا ، أمرك الله أن تصلي ، أمرك أن تغضَّ بصرك ، يقول لك مُماحَلَة : " إن الله جميل يحب الجمال ، أنا لن آكلها " ، غُضَّ البصر ، وكفى ، واللهُ قال:
﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 53 )
أطهر ، ومع ذلك يُجادل الإنسان من ذوي الأهواء ، فالله عزَّ وجل أطلعنا في هذه القصَّة على مستوى رفيعٍ رفيع من العبوديَّة لله عزَّ وجل ، لذلك حَسْبُ أيّ أمرٍ لله عزَّ وجل أنه أمر الله ، علَّة أيّ أمرٍ لله عزَّ وجل أنه أمر الله عزَّ وجل ، يكفينا هذا .
المؤمن الصادق عنده شيءٌ واحد ، هو التحقُّق من أن هذا أمر الله ، وهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا حكم الله ، وهذا يرضي الله ، وانتهى الأمر ، فإذا تحقَّقَ أن هذا أمر الله بادرَ إلى تطبيقه .
لكن بعض العلماء قالوا : أنت أيها المؤمن ، إذا بادرت إلى تطبيق أمر الله عزَّ وجل عبوديَّةً له ، وانصياعاً له ، ولو لم تقف على حكمته ، لو لم تقف على عِلَّته ، لو لم يتبيَّن لك وجه منطقيَّته ، إذا بادرت إلى تطبيق أمر الله عزَّ وجل الله جلَّ جلاله يتكرَّم عليك بكشف حكمته جزاء عبوديَّتك له ، أي نفِّذ ثمَّ انتظر أن يكشف الله لك الحكمة ، نفِّذ ثم انتظر ظهور الحكمة وجلاءَها .
الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به :
بالمناسبة ، هناك نقطة مهمَّة جداً في هذا الموضوع ، الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به ، كيف ؟ فمن الممكن لإنسانٍ لا يقرأ ولا يكتب ، ليس متعلِّماً إطلاقاً ، ولا يفقه ما هي الآلة ، من الممكن أن يشتري مكيفاً ، وكلَّما شعر بالحر يكبس زراً فيأتيه الهواء الطيِّب ، ولكن هذا جاهل بمبدأ المكيفات ، وتحريك الغازات ، والدفع ، وما إلى ذلك ، ومن الممكن لإنسان أن يركب أفخم سيَّارة ، وأحدث موديل ، وهو لا يعرف ما تحت غطاء المحرِّك ، أنت من الممكن تنتفع بالشيء من دون أن تعلمه ، فما علاقة هذا الكلام بدرسنا ؟
إذا نفَّذت أمر الله دون أن تسأل عن حكمته ، ولو لم تعرف حكمته ، بل لأنه قال لك الله عزَّ وجل : غُضّ بصرك ، قلت : أنا سأغض بصري ، كل ثمار غضِّ البصر تقطفها دون أن تعلم حكمته ، كل السعادة التي وعد الله بها من يغضُّ بصره تجنيها دون أن تعلم حكمة غض البصر ، أمرك أن تصلي ، أمرك أن تصوم ، أمرك ألاّ تأكل الربا ، لو امتنعت قصداً عن فهم حكمة تحريم الربا ، ولم تأكل الربا شعرت براحةٍ ما بعدها راحة .
لذلك إن فهمت الحكمة فلا بأس ، وهي أفضل ، إن فهمت حكمة الأمر فهذا شيء جيِّد ، لأنك إن فهمت الحكمة بإمكانك أن تعلِّم هذا الأمر للناس ، كنت عابداً فأصبحت عالِماً ، إذا بادر الإنسان إلى تطبيق أوامر الله عزَّ وجل من دون أن يعلم حكمتها ، وقَطَفَ ثمارها ، وسعد بها فهو عابد ، أما إذا تعلَّم حكمتها ، وعلَّمها للناس أصبح عالِماً ، لكن الحد الأدنى أنك إذا عرَفت الأمر الإلهي ، ولم تتعرَّف إلى حكمته ، وطبَّقت هذا الأمر ، تقطف كل ثماره اليانعة .
بالمناسبة : اليوم ذكرت في الخطبة : أنك من الممكن أن تقرأ عن العفو ، وأن تتحدَّث عن العفو ، ومن الممكن أن تحدِّثنا عن رسول الله كيف عفا عن كفَّار مكَّة ، كيف عفا عن عكرمة ، ومن الممكن تبكيّنا ، وممكن أن تقرأ ما في سير الصالحين من مواقف العفو ، وممكن أن تحلِّل العفو ، وممكن أن تؤثِّر ، لكن إنْ لم يكن لك عدوٌ نال منك أشدَّ النيل ، ثم وقع في قبضتك ، وأنت قادرٌ على التنكيل به ، وعفوتَ عنه ، إن لم تمارس العفو فلست عَفُوَّاً ، الحديث عن العفو شيء ، وأن تكون عَفُوّاً شيءٌ آخر ، الحديث عن التواضع شيء ، وأن تكون متواضعاً شيءٌ آخر ، الحديث عن الكَرم شيء ، وأن تكون كريماً شيئاً آخر .
فيا أيها الإخوة الأكارم ، حينما تبادر إلى أمر الله عن علمٍ أو عن غير علمٍ تقطف كل ثماره ، لكنك إن بادرت إليه عن علمٍ استطعت أن تعلِّمه للآخرين ، وأن تنتقل من مرتبة العبَّاد إلى مرتبة العلماء .
إذاً :
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا ﴾
فإذا كان هناك أمر إلهي لم تفهمه ، هل سيكون مثل هذا الأمر أشدَّ من هذا الموقف ؟ لا ، العجيب ما إن تجلس في مجلس فالأسئلةُ عن الفوائد كثيرة ، وعن التحويل ، وعلى البنوك ، فأنت تقول : هكذا أمر الله ، فيرد عليك : هذا ليس صحيحاً ، تجد نَفَساً طويلاً ومناقشات ، ويريد أن يقولب الدين كما يريد ..
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52) ﴾
(سورة المدثِّر)
يريد ديناً تفصيلاً مناسباً لحجه ، يتناسب مع حركته ، مع شهواته ، مع رغباته ، مع عاداته ، مع تقاليده ، تجد المناقشة طويلة ، حتى إنه يقول لك : إن هذه الأمور ما فيها حرج ، ولماذا أنت تعقِّدها ؟ ما هو دليلك عليها ؟ لكن أين الإيمان من هذا ؟ الإيمان ما إن يثبت لك أن هذا أمر الله إلا وتبادر إلى تطبيقه ، إذا أردت قدوة فسيدنا إبراهيم قدوة صارفة ، قال له :
﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾
2 ـ الاستسلام لله عزَّ وجل ذروة الإيمان :
سيدنا إبراهيم استسلم لأمر الله ، والاستسلام حالةٌ مريحة جداً ، رب العالمين أرحم الراحمين ، عليمٌ ، حكيمٌ ، لطيفٌ ، قديرٌ ، عدلٌ ، مُعطٍ ، مانع ، مُغنٍ ، رافع ، خافض ، رزَّاق ، وهَّاب ، هذا أمره ، فالاستسلام لله عزَّ وجل ذروة الإيمان ، كما قال الشاعر :
هم الأحبَّة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهمُ معدلٌ وإن عدلوا
والله وإن فتَّتوا في حبِّهم كبدي باقٍ على حبِّهم راضِ بما فعلوا
***
هذه علامة الإيمان ، أحد الصحابة فقد بصره ، قيل له ـ وكان مستجاب الدعوة ـ : ادعُ الله أن يردَّ لك بصرك ، قال : " والله أخجل ، هو اختار لي هذا ، وأنا أرفضه ؟! " ، فقد بلغ حبُّهملله عزَّ وجل درجة أنهم راضون بمشيئة الله مهما تكن مؤلمةً .
كلُّنا إذا قرأنا هذه القصَّة سنقول : ما الذي حصل بعد هذا ؟ فقد فداه الله بذِبحٍ عظيم ، هذا خطأٌ كبير في تصوّرنا للحدث ، سيدنا إبراهيم حينما تلقَّى الأمر بذبح ابنه ما خطر في باله أن هذا الأمر لا يُنَفَّذ ..
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾
فَلَمَّا أَسْلَمَا
أيْ أنّه استسلم لتنفيذ أمر الله .
أنت أحياناً يمتحنك الله بمشكلة ، فهو خيار صعب جداً .
1 ـ الله يمتحن عباده :
أنا أعرف رجلاً رعى امرأةً ليس لها أحد يحنو عليها ، بل هي كما يقال في عُرفنا : مقطوعة ، تسكن في غرفة في مسجد ، وكان الرجل يسكن إلى جوار المسجد ، رعاها أكثر من عشرين عاماً ، ثمَّ انتقل إلى حيٍّ بعيدٍ بعيد ، وقد عاهد الله على أن يتابع رعايته لها ، فصار يخرج من بيته في حيِّه الجديد مشياً على قدميه إلى مكان إقامتها ليرعاها ، بذل أهله كل ما في وسعهم ليصرفوه عن هذا العمل ، بيتك صار بعيداً ، كبرت سنك ، كفاك ما قدمت ، واللهُ لا يكلفك فوق طاقتك ، أبداً سأثابر ، فلمَّا رأوا منه إصراراً لا حدود له ، ووفاءً بالعهد لا حدود له ، امرأة على حافة قبرها ، فقالوا له : أمرُنا لله عزَّ وجل ، فائت بها إلى البيت رحمةً بك ، فجاؤوا بها إلى البيت ، ما هي إلا أيَّام حتَّى توفَّاها الله عزَّ وجل ، أما هو فقد وطَّنَ نفسه على أن يخدمها إلى ما شاء الله .
في بعض التجارب يضعك الله عزَّ وجل أمام اختيار صعب جداً ، فحينما تؤثر مرضاة الله عزَّ وجل يكون الحل سهلاً جداً ، والله عزَّ وجل أظهر صدقك ، أظهر وَرَعَك ، أظهر خوفك ، ثمَّ صَرَفَ عنك هذه المتاعب كلَّها ، من هذا القبيل هناك تجارب كثيرة ، الإنسان يؤثر طاعة الله ، فإذا هذه الطاعة التي تبدو لك متعبةً جداً يقلبها إلى مهمة مريحة ، وأنت لا تدري .
أخ كريم ذكر لنا قصَّته ، فقد اضطر من أجل أن يشتري بيتاً إلى معاملة غير شرعيَّة ، فلمَّا عرف أنها غير شرعيَّة قال : يا رب ، لا أريد البيت ، ولا أعصيك أبداً ، فلمّا وصل إلى محلِّه التجاري ، فإذا إنسان ينتظره ، ويقول له : أنا معي هذا المبلغ سأضعه عندك أمانة لسنتين ، وأُناشدك الله أن تستعمله ، فحينما وُضِعْت أمام ظرف صعب ؛ إما أن يضيع منك هذا البيت ، وإما أن تعصي الله ، لا ، فلن أعصي الله وليضِع هذا البيت ، فإنَّ الله عزَّ وجل وضعك في اختيارٍ صعب ثمَّ هيَّأ لك البديل .
الآمر ضامن ، فإذا كانت هذه حراما فحرام ، وهي دونما جدال ، لكن أبقى بلا بيت ؟ الذي أمرك بترك هذا الطريق خالق الكون ، فهو قادر أن يمنحك أعظم بيت ، فلذلك الآمر ضامن ، اذكر هذا الكلام دائماً ، الذي أمرك والذي نهاك خالق الكون بيده كل شيء ، فإذا رأى منك ورعاً ، وصِدقاً ، واستقامةً ، وخوفاً ، رفعك لورعك ولاستقامتك ولخوفك ، ومنحك ما أنت بحاجةٍ إليه من طريقٍ مشروع ، هذا معنى القول الشهير : " اصبر على الحرام يأتِك الحلال " ، هذا معنى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام :
((اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك )) .
[ ورد في الأثر ]
لقد أردتُ من هذه القصَّة أن أبيِّن لكم أن المؤمن كثيراً ما يضعه الله أمام اختيارٍ صعب جداً ، فإذا آثر طاعة الله عزَّ وجل هيَّأ له ما يُخفِّف من متاعبه ، أو ما يلغيها كلياً ، وكل قصَّةٍ ترد في القرآن الكريم يمكن أن تحدث مع المؤمن بشكلٍ مخفَّف ..
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾
الأب استسلم ـ الذابح ـ والله أنا لا أبالغ ؛ لو أنني خيَّرتُ هذا الأب الكريم أن يذبح ابنه أو أن يُذْبَح ، لآثر أن يُذْبح ، ولا يعرف هذا إلا الأب ، ابن كالوردة بلغ معه السعي ، ملء السمع والبصر ، حليمٌ ، نبيٌ كريم ، في أعلى درجات الأدب ، في أعلى درجات الكمال : أذبحه ؟
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾
رحمة إبراهيم بابنه إسماعيل : وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
هو استسلم لأمر الله ، وابنه إسماعيل استسلم لأمرالله ، لكن شفقة الأب منعته أن ينظر إليه ، وهو يُذْبَح ، فجعل وجهه للأرض ..
﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾
أي أنه جعل جبينه للأرض لئلا تقع العين في العين ، لذلك الله عزَّ وجل حينما أخبرنا عن غرق ابن سيدنا نوح ، قال:
﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ(43) ﴾
(سورة هود)
فرحمةً بالأب جاءت موجةٌ عاتية حجبت الابن عن أبيه ، وقد استنبط العلماء أنه لا يجوز أن يُقْتَل الابن أمام أبيه ، رحمةً بالأب ، وقد ورد في بعض الأحاديث القدسيَّة أنه "إذا ماتت الأم يقول الله جلَّ جلاله : عبدي ، ماتت التي كنَّا نكرمك لأجلها ، فاعمل صالحاً نكرمك لأجلك " ، فجزءٌ من إكرام الله لك أيها الابن من أجل الأم .
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾
في التاريخ قصصٌ كثيرة ، مؤمنون وُضِعوا في خيارٍ صعبٍ جداً ؛ إما أن يرضوا الله عزَّ وجل أوْلاً ، أي إن لم يرضوا الله عزَّ وجل عاشوا ، وإن أرادوا رضوانه ضحوا بحياتهم من أجل رضوان الله عزَّ وجل ، آثروا رضوانه ، فالله جلَّ جلاله هيَّأ لهم أسباب الوقاية ونجَّاهم من عدوِّهم ..
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
كنتَ صادقاً ، وفَّيت ما عليك ، لذلك قال الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37) ﴾
(سورة النجم)
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾
(سورة السجدة : من الآية 24)
﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾
(سورة البقرة : من الآية 124)
﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
هذا البلاء بلاء مُبين ، لكن جاءالفَرَجَ ، ظهر كماله ، ظهرت عبوديَّته ، ظهرت طاعته ، ضحَّى بحياة ابنه ، ضحَّى بفلذة كبده ، لكن الله جلَّ جلاله ما فجعه بكل ذلك ..
﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) ﴾
أحياناً تجد أن هذا الطريق مسدود ، وذاك الطريق مسدود ، والآخر مسدود ، والكل مسدود ، ولم يبقَ إلا طريق واحد مفتوح ، ولكنفيه معصية ، لحكمةٍ يريدها الله عزَّ وجل يُغلق عليك كل الطرق المشروعة ، ويُبقي لك طريقاً واحداً غير مشروع ، هذا بلاء ، هذا ابتلاء مبين ، فضعاف الإيمان يقولون : أخي ماذا أفعل ، والله إني مضطر ، وأنا عندي أولاد !!فيقع بالحرام ، ويأتي مؤمن آخرُ إيمانه قوي يقول : والله لا أعصي الله ، ولو نمت في العراء ، ولو أكلت شوكاً فلا أعصي الله ، وليكن ما يكون ، هذا اختيارك ، هذا ورَعُك ، هذا حبُّك ، هذه طاعتك ، هذه عبوديَّتك ، كَسِب ، نجح ، وفاز ، ونال رضوان الله عزَّ وجل ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، لكن بعد ماذا ؟ بعد أن وضِعَ في اختبارٍ صعب .
أيها الإخوة الأكارم ، أقول لكم هذا الكلام : والله يقيني أن المؤمن لابدَّ من أن يُمْتَحن أبداً ، لابدَّ من أن يُوضَع في اختيارٍ صعب ليظهر إيمانه ، لتظهر طاعته ، ليظهر حبُّه ، ليظهر ورَعه ، ليظهر خوفه ، فإذا نجح أتته الدنيا وهي راغمة .
قصَّة إبراهيم عليه السلام يمكن أن تقع بشكلٍ أو بآخر مع كل مؤمن، ظرف صعب ، دخل كبير لكن فيه شبهة ، وأنت في أمسِّ الحاجة إلى المال ، دخلك هنا قليل جداً لا يكفي ، هنا دخل كبير لكنَّه مشبوه ، إذا قلت : والله يا أخي مضطر ، والله شيء مغرٍ يا أخي ، أنت بهذا سقطت ، أما إذا قلت : والله لا أعصي الله ، وليكن ما تكون ، نجحت ، فإذا رفضت هذا الدخل الكبير المشبوه ، ما قولك أن يأتيك الله بدخلٍ كبيرٍ غير مشبوه ؟ هذا والله يقع دائماً ، كلَّما آثرت رضوان الله على الدنيا كسبت رضوان الله ، وجاءتك الدنيا ، كلَّما آثرت رضوان الله على الدنيا فزت برضوان الله ، وأتتك الدنيا وهي راغمة ، لذلك :
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ )) .
[ الترمذي ]
هذه قصَّة يعيشها كل مؤمن ، تقع مع كل مؤمن ، من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى ..
﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾
أي كنت صادقاً يا إبراهيم في تنفيذ أمر الله ، لقد وفَّيت يا إبراهيم ما عليك ، لقد امتُحِنْت فنجحت ، ابْتُليت فصبرت ، ظهر ورعك ، ظهر حبُّك ، ظهرت عبوديَّتك لله عزَّ وجل ، أظهرت أن حبَّ الله أحبُّ إليك من فلذة كبدك ..
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
الجزاء بعد الامتحان : إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
يُمْتَحنون ، فينجحون ، فيفوزون برضوان الله ، ثم تأتيهم الدنيا وهي راغمة ، أخذوا الحُسْنَيَين ، أهل الدنيا يُمتحنون ، فيسخطون الله من أجل الدنيا ، ثم تذهب الدنيا من بين أيديهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾
(سورة الأنفال : من الآية 36)
﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾
السمعة الطيِّبة ، والذكر الحَسَن ، والسيرة العطرة ..
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
هذا جزاءُ الإحسان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ فكل واحد منَّا أيها الإخوة بعمله ، بزواجه ، بسفره تأتيه امتحانات صعبة جداً ، من هذه الامتحانات أن طاعة الله عزَّ وجل مُكْلِفَة ، وأن معصيته سهلة ومربحة ، هكذا الامتحان ، فإذا قلت : والله لا أعصي الله ، وليكن ما يكون ، فزت برضوان الله ، وتأتيك الدنيا وهي راغمة..
﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111)وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾
إسماعيل وإسحاق نبيَّان من ذريَّة سيدنا إبراهيم ..
﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ
الناس بين محسنٍ وظالم :
من ذريَّة هذين النبيّين الكريمين مُحسن وظالم ، ونحن من ذريَّة نبيِّنا عليه الصلاة والسلام ، بعضنا محسن ، وبعضنا ظالم ، فالذي استجاب لله ورسوله فهو محسن ، والذي لم يستجب فقد ظلم نفسه ، ولم يظلم أحداًسواه .
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نأتي على قصَّة سيدنا موسى والأنبياء من بعده .
والحمد لله رب العالمين