سورة الصافات (037)
الدرس (13)
تفسير الآيات: (149 ـ 163)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الثالث عشر من سورة الصَّافَّات ، ومع الآية الثامنة والأربعين بعد المائة ، يقول الله جلَّ جلاله:
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ(149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ(150)أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(155) ﴾
مقدمة :
1 ـ العقل قوام الإنسان :
بعد أن بيَّن الله جلَّ جلاله في الآيات السابقة قِصَصَ عددٍ منالأنبياء والمُرسلين ، وكيف وقفوا موقف الدعاة إلى الله عزَّ وجل ، وكيف تلقَّوا من أقوامهم التكذيب والسخرية ، وكيف أن الله جلَّ جلاله نصرهم على أعدائهم ، وكان الفوز في النهاية لهم ، ينهي ربنا هذه السورة بهذه المناقشة المنطقيَّة .
وقبل أن نمضي في تفسير هذه الآيات بفضل الله جلَّ جلاله ، لابدَّ من كلمةٍ حول قِوام الإنسان ، وهو عقله ، ومن لا عقل له لا دين له ، ومن لا دين له لا عقل له ، و ..
((إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ، ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب أحد ، وما قسم الله لخلقه حظا هو أفضل من العقل واليقين )) .
[من كنز العمَّال عن طاووس مرسلا ]
وما خلق الله خلقاً أحبَّ إليه من العقل ، لأن العقل كما قال الإمام عليّ رضي الله عنه: << العقل أصل الدين >> ، لأنك إذا عقلت استسلمت ، وإن استسلمت سعدت ، دائماً أحبُّ أن أُلخِّص الدين بكلماتٍ ثلاث : إدراكٌ ، سلوكٌ ، سعادة ، لن تستطيع أن تستسلم ، لن تنصاع لأمر الله عزَّ وجل ، لن تستسلم له ، لن تطيعه ، لن تحبَّه إلا إذا عرفته ، وطريق المعرفة العلم ، لذلك :
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ )) .
[من سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك ]
2 ـ العلم طريق إلى الله :
الله جلَّ جلاله هو المقصد النهائي ، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ، وما دام الله جلَّ جلاله هو المَقْصِدُ والمَطْلَب ، إذاً أخطر شيءٍ في هذا الموضوع الطريق إليه ، ما دام هو المقصد ، هو المطلَب ، هو الهدف ، هو المراد ، إذاً أخطر شيءٍ بعد هذا المَطْلَب الطريق إليه ، الطريق إليه هو العلم ، قال تعالى :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ﴾
(سورة محمد : من الآية 19)
﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
(سورة المجادلة : من الآية 11)
والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك .
في الكون حقيقةٌ ، هي كل شيءٍ في الكون ، هذه الحقيقة هي الله عزَّ وجل ، فأخطر شيءٍ بعد هذه الحقيقة الطريق إليه ، الطريق إليه هو العلم ، فحجمك عند الله بحجم عملك.
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
(سورة الأحقاف : من الآية 19)
وحجم عملك بحجم علمك.
﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
(سورة المجادلة : من الآية 11)
تتعلَّم ، تعمل ، تسعد ، إذاً : فيما يبدو أن أول خطوةٍ في طريق الإيمان خطوة العلم بالله عزَّ وجل ، بعد العلم بالله تأتي الطاعة ، تأتي الاستقامة ، يأتي العمل الصالح ، بعد الطاعة والاستقامة والعمل الصالح تأتي السعادة في الدنيا والآخرة ، وأداة العلم العقل ، العقل أداة معرفة الله ومناط التكليف ، وإذا أخذ الله ما أوهب أسقط ما أوجب ، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة جداً حدَّثنا عن قيمة العقل ، وقد لا تصدِّقون أن في القرآن الكريم ما يقرُب من ألف آية تتحدَّث عن العقل ، وعن الفكر ، وعن المحاكمة ، لذلك ربنا عزَّ وجل حينما قال :
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ ﴾
فَاسْتَفْتِهِمْ
1 ـ لابد من المحاكمة العقلية :
أي أين عقلك ؟ أين محاكمتك ؟ أين هذه الجوهرة الثمينة التي وهبك الله إيَّاها ؟ لماذا تعطِّلها ؟ لماذا تحقرها حينما تعملها في أهدافٍ سخيفة ؟
الإنسان أيها الإخوة حتى لا تستهلكه الحياة ، حتى لا يكون من عمل إلى عمل ، من لقاء إلى لقاء ، من صفقة إلى صفقة ، من طَور إلىطور ، ثم يُفاجأ أن ملك الموت يطرق عليه الباب ، ويقول له : تفضَّل معنا ، لئلا يكون الموت حدثاً صاعقاً ، يجب أن يكون للإنسان مع نفسه جلسات تأمُّل ، فلو فرضنا أن الإنسان كان في غيبوبة ، كان مخدَّراً ، كان في حالة إغماء ، فاستيقظ ورأى نفسه في قطار ، والقطار متحرِّك ، أليس هناك سؤالٌ خطيرٌ جداً : لماذا أنا في هذا القطار ؟ وإلى أين يسير القطار؟ وأين محطَّته الأخيرة ؟ ومن أيَّة محطَّةٍ انطلق ؟ ما هذا القطار ؟ قطار من؟ ومن أنا ؟
و حينما خُلِقَ الإنسان في هذه الدنيا ، وحينما أدرك ، وجد نفسه كائناً متحرِّكاً ، في مدينة ، له أب ، له أم ، ألا ينبغي أن يسأل : مَن خلقني ؟ ولماذا خلقني الذي خلقني ؟ ولماذا جعلني في الدنيا ؟ وماذا بعد الدنيا ؟ هذا الذي يعطِّل فكره تستهلكه الحياة ، وينتهي أجله عندئذٍ يَقْدمُ على الآخرة صفر اليدين ، عندئذٍ ينطبق عليه قوله تعالى :
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26) ﴾
(سورة الفجر)
فلا يوجد إنسان بحكم أنه نشأ في بلاد إسلاميَّة ، واستمع إلى خطبٍ كثيرة ، وإلى دروس ، وقرأ ، والتقى ، وجلس ، وسافر ، هناك في مخيلته مجموعة تصوُّرات عن الدين ، بعد أن أدرك هذا الإنسان سنَّ الرُشد ، بعد أن أكرمه الله بالمعرفة ينبغي أن يراجع كل هذه التصوُّرات ، بعضها صحيح ، وبعضها غير صحيح .
الشيء الذي يَلفت النظر أن هناك أناساً على درجة عالية من الثقافة ، أو على درجة عالية من الذكاء ، ومع ذلك يعتقدون اعتقاداتٍ فاسدة ، عندهم تصوُّرات غير صحيحة .
هذا كلام الله بين أيدينا ، هذا هو المقياس ، هذا هو الحق المبين ، هذا هو الصراط المستقيم ، هذا هو حبلُ الله المتين ، هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلذلك ينبغي أن نتمسَّك به ، وأن نجعله مقياساً لكلِّ ما نعتقد ، أن نجعله مقياساً لكل ما نتصوُّر ، تصوُّراتنا ، اعتقاداتنا ، فلسفتنا ، قيمنا ، يجب أن نَزنها بهذا الكتاب ، فهناك في الجاهليَّة من يعتقد أن الله سبحانه وتعالى اصطفى البنات على البنين ، هناك من يعتقد أن الله ولَدَ البنات ..
﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾
(سورة النحل)
هو يكره البنات ، ويقول : الملائكة بنات الله ، عزا إلى الله شيئاً يكرهه هو ، هذه ..
﴿ قِسْمَةٌ ضِيزَى(22) ﴾
(سورة النجم)
ربنا عزَّ وجل في هذه الآية يدعونا إلى التفكُّر ، يدعونا إلى المُحاكمة ، الإنسان من حينٍ لآخر ينبغي أن يجلس مع نفسه ليتأمَّل ، هذا الكون معجِز ، هذا الكون لابدَّ له من خالق، لابدَّ له من مربٍ ، لابدَّ له من مسيِّر ، لابدَّ من هدفٍ كبير خُلقت من أجله ، لابدَّ من مهمَّةٍ خطيرة أرسلك الله إليها ، لابدَّ من أن تنتهي الحياة ، لابدَّ من أن تعرف من الذي خلقك ، من الذي أوجدك ، فكأن هذه الآيات تدعونا إلى التفكُّر ..
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ ﴾
اسألهم ، الله عزَّ وجل زوَّد الإنسان بقوَّةٍ إدراكيَّة ، زوَّده بعقل ، هذا العقل في أدقِّ تفاسيره أنه لا يفهم شيئاً حوله إلا بسبب ، ولا يفهم شيئاً حوله إلا بغاية ، وهناك أمثلة كثيرة ، أيعقل أن يخرج إنسان من بيته لنزهة طويلة ، وقد قَطَعَ الكهرباء عن البيت ، يعود إلى البيت فيرى مصباحاً متألِّقاً ، ويبقى ساكتاً ؟ لا يضطرب ؟ لأن عقله يقول له : لا يمكن أن يتألَّق المصباح إلا بفاعل ، وبسبب ، إذاً : هناك من دخل البيت ، هذا هو العقل ، فأنت لا تقبل أن يتألَّق المصباح في غيبتك ، أتقبل أن كوناً عظيماً بسماواته ، بأرضه ، بما في الأرض من نباتات ، بما فيها من حيوانات ، بما فيها من مخلوقات لا تُرى ـ كالجراثيم والفيروسات ـ بما في تحت الأرض ، بما في فوق الأرض ، كل هذا من غير شيءٍ ؟
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ(35) ﴾
(سورة الطور)
2 ـ لا تكن آلةً متحركة :
أخطر شيء في الحياة أن يصبح الإنسان آلة متحرِّكة ، والمدنيَّة الغربيَّة من مشكلاتها الخطيرة أنها تجعل الإنسان آلة ، ولا سيما حينما تُبْنى المصانع على خطوط عمل ، كل عامل له حركة بسيطة يقوم بها ، فالإنسان حينما يُخْتَصَر عمله إلى حركةٍ بسيطة يصبح كالآلة ، ويُعْطَّل فكره ، فالإنسان لابدَّ له من ساعات تأمُّل ..
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة يونس : من الآية 101)
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾
(سورة سبأ : من الآية 46)
إذاً : لابدَّ من جلسة تفكُّر ، لابدَّ من جلسة تأمُّل ، لابدَّ من سؤال ، لابدَّ من جواب ، لابدَّ من محاكمة ، لابدَّ من حوار ، وحينما يعتقد الإنسان اعتقاداً صحيحاً يتحرَّك حركة صحيحة ، وحينما يعتقد اعتقاداً صحيحاً يوقع سلوكه وَفْقَ اعتقاده ،وهنا تكمن ميزة الإنسان.
إذا قرأ الإنسان هذه الآية يشعر أن الله يدعونا إلى أن نحاكم ، إلى أن نفكِّر ، يدعونا إلى استعمال العقل.
﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ(138) ﴾
(سورة الصافات)
﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ ﴾
(سورة الغاشية : من الآية 17)
﴿ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ(50) ﴾
(سورة الأنعام)
﴿ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ(3) ﴾
(سورة الأعراف)
﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6) ﴾
(سورة الزمر)
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154) ﴾
(سورة الصافات )
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ(6) ﴾
(سورة الجاثية)
الآيات التي تتحدَّث عن العلم والعقل والتفكُّر والمحاكمة تقترب من ألف آية في القرآن الكريم ، وكما قلت قبل قليل : قوام المرء عقله ، وسيدنا عمر بن عبد العزيز كان إذا دخل مجلس الخلافة يتلو قوله تعالى :
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205)ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206)مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) ﴾
(سورة الشعراء)
الإمام الغزالي ناقش نفسه ذات مرَّة ، قال: " يا نفس ، لو أن طبيباً منعكِ عن أكلةٍ تحبينها ، لا شكَّ أنك تمتنعين ، يقول لنفسه : يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟! " .
الله عزَّ وجل منعك عن أكلات ، منعك عن شهوات معيَّنة ، منعك عن معاصٍ كثيرة ، ألا تستحي من الله تتبع نصيحة الطبيب بحذافيرها ، ولا تتَّبع توجيه الله عزَّ وجل في قرآنه ؟
قال : " يا نفس لو أن طبيباً منعكِ عن أكلةٍ تحبينها ، لا شكَّ أنكِ تمتنعين ، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟! إذاً ما أكفركِ ، أيكون المرض أشدَّ عندكِ من النار ؟ إذاً ما أجهلكِ" .
هذه المناقشة التي أجراها الإمام الغزالي تُبَيِّن أن الإنسان إن لم يطع الله عزَّ وجل فهو مدموغٌ إما بالكفر ، أو بالجهل ، إما جاهل أو كافر ، وإذا كان الطبيب أصدق عندك من الله فهذا هو الكفر بعينه ، وإذا كانت جهنَّم أهون عندك من المرض فهذا هو الجهل بعينه .
إذاً يدعونا ربنا إلى إجراء محاكمةٍ عقليَّة ، الصحابة الكرام حينما آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام أجروا محاكمةً عقليَّة ، سيدنا خالد عندما أسلم ـ أسلم متأخِّراً ـ النبي عليه الصلاة والسلام قال له كلمةًٍ دقيقةً جداً ، ولها مدلول خطير ، قال : " يا خالد عجبت لك ، أرى لك فكراً " ، أي لماذا تأخَّرت حتَّى الآن ؟ مثلك ينبغي أن يكون سَبَّاقاً إلى الإيمان ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام رَبَطَ الإيمان بالعقل ، ولذلك ورد عنه صلَّى الله عليه وسلَّم :
((أن أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً )) .
[ ورد في الأثر ]
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ ﴾
أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ
هكذا على مزاجهم ، هكذا وفق أخيلَتهم ، وفق أوهامهم ، البنات لله عزَّ وجل وهم يكرهونها ، والذكور لهم وهم يحبُّونهم ..
﴿ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ(149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ
1 ـ ما أشهدَ اللهُ على خَلقه أحدا :
هل كانوا معي حينما خلقت السماوات والأرض ؟ الله جلَّ جلاله يقول :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة الكهف : من الآية 51)
ما كانوا معي .
وضَّحت هذه الآية سابقاً بمثل : إنسان في السبعين من عمره يجلس مع أصدقائه ، كان قد استلم محلاً ، استلم محل بسوق الحميديَّة سنة الأربعين ، سنة الخمسين تزوَّج ، جاءه ولد ، قال لأصحابه : أنا استلمت المحل بثلاثين ألفا منذ أربعين سنة ، فقال الابن ، وهو يجلس معه : لا ، هذا غلط يا أبي ، فنظر إليه الأب وقال : أنت هل كنت في ذلك الوقت ؟ أنت لم تكن ، انتهى الأمر ، هل كنت معي وقتها ؟ لم تكن مولوداً ؟ الله عزَّ وجل قال :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة الكهف : من الآية 51)
أوهامهم ، تصوُّراتهم عند بدء الخليقة ، عن آدم ، عن الملائكة ، عن الجن ، ما كانوا وقتها ـو ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ ﴾ .
2 ـ الغيبيات أساسها النصُّ :
أنا أخبرتكم ، هذه الموضوعات المتعلِّقة بالماضي السحيق ، أو الموضوعات المتعلِّقة بالمستقبل البعيد ، أو الموضوعات المتعلِّقة بما غاب عنَّا كعالَم الجِنِّ والملائكة ، أو الموضوعات المتعلِّقة بذات الله عزَّ وجل ، هذه موضوعات ما كان للإنسان أن يُحَكِّمَ بها عقله ، أنت لم تكن في وقتها ، إما أنك لم تكن ، أو إنَّك لا تملك المؤهِّلات كي تحكم بهذا الموضوع ، هذه موضوعات إخباريَّة ، موضوعات سمعيَّة ، فأن تقول : الملائكة إناث ، والله عزَّ وجل ولَدَ الملائكة ، فمن أمُّهم ؟ قال سيدنا الصديق : " من أمُّهم ؟ " هذا كلام سيدنا الصديق وقد ورد في بعض التفاسير ، فهذه كلُّها أوهام ، وأباطيل .
هذا كلام دقيق جداً ، الإنسان بعقله الذي أكرمه به الله عزَّ وجل ، وأودع فيه هذا الجهاز العظيم ، بهذا العقل يصل إلى الله وجوداً ، ووحدانيَّةً ، وكمالاً ، وبهذا العقل يصل إلى الإيمان بالقرآن الكريم ، كلام الله عزَّ وجل ، وبهذا العقل يصل إلى الإيمان بمن جاء بهذا القرآن ـ بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام ـ والقرآن أخبرنا عن أشياء كثيرة لا يستطيع العقل أن يدركها ؛ أخبرنا عن الماضي ، أخبرنا عن المستقبل ، أخبرنا عن ذاته ، أخبرنا عما غاب عنَّا ، فذات الله ، وما غاب عنا ، وما سبقنا، وما سيأتي ، فهذه موضوعات لا يمكن أن تخضع للعقل ، لأن العقل لا يملك وسائل التحقُّق منها ، إلا أن الله جلَّ جلاله أخبرنا بكلامه المُنَزَّل على النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر كذا ، وهذا الأمر كذا ، فربنا يقول :
﴿ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾
أكانوا مع الله حينما خلق الملائكة ؟
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ﴾
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
من كذبهم ، وافترائهم ..
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) ﴾
(سورة الإخلاص)
الله عزَّ وجل واجب الوجود ، وهناك أشياء مستحيلة الوجود ، وأشياء ممكنة الوجود ، وما سوى اللهممكن الوجود ، الله جلَّ جلاله واجب الوجود ، نقيض أسمائه وصفاته مستحيلة الوجود ..
﴿ أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
سؤال : كيف يتوازن الإنسان ؟ كيف يستطيع أن ينام ؟ يستطيع أن يطمئن ؟ كيف يُحس بالراحة والطمأنينة وهو مقيم على معصية ؟ أو هو لا يدري من هو ؟ لا يدري كيف خُلِق ، ولماذا خُلِق ؟ وإلى أين المصير ؟ هذه أسئلة خطيرة جداً ، إن لم تجب عنها كيف ترتاح ؟ كيف تطمئن ؟ كيف تتوازن ؟
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
فأنت ماذا فعلت بعقلك ؟ أفمن المعقول لإنسان يكون معه جهاز من أدق الأجهزة لكشف العملة المزيَّفة ، ويقبض عملة مزيَّفة بمئات الألوف أو بالملايين ، والجهاز في جيبه ولا يستخدمه ؟ وحينما يكتشف في ساعةٍ حرجة أن كل هذا النقد الذي بين يديه نقدٌ مزيَّف ولا قيمة له ، عندئذٍ يُصْعَق ، ماذا يقال له ؟ يقال له : معك جهاز ، فلمَ لمْ تستخدمه ؟ أين جهازك ؟ أين الجهاز الذي أودع معك من أجل كشف النقد المُزَيَّف ؟
دعوة الإسلام متوافقة مع العقل السليم والفطرة السليمة :
والإنسان عنده موازين عدة ؛ ميزان الفطرة ، وميزان العقل ، وميزان النقل ، وميزان الواقع فهو لا يقبل فكرةً قبولاً ساذجاً ، دون أن يمحصها ، دون أن يزنها بميزان الشرع ، دون أن يزنها بميزان المَنطق ، بميزان الواقع ، بميزان الفطرة ، وكل فكرة فاسدة ، أو اعتقاد فاسد ، أو وهم فاسد يرده ، ولا يرضى به .
يقول أحد العلماء : "الشريعة عدلٌ كلُّها ، مصلحةٌ كلُّها ، رحمةٌ كلُّها ، فأية قضيِّةٍ خرجت من العدل إلى الجَوْرِ ، من المصلحة إلى المفسدة ، من الرحمة إلى ضدِّها ، هذه القضيَّة ليست من الشريعة ، ولو أُدخِلَت عليها بألف تأويلٍِ وتأويل " .
أحدهم مرَّةً قال: " ما قال النبي شيئاً وقال العقل : لا ، وما نهى عن شيءٍ والعقل قال : نعم " ، أبداً ، فدعوة النبي متوافقةٌ توافقاً تاماً مع العقل ، ودعوة النبي متوافقةً توافقاً تاماً مع الفطرة ، ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام متوافقةٌ توافقاً تاماً مع الواقع ، ودعوة النبي نابعةٌ من خطاب الله لهذا الإنسان ، والله شيء واضح كالشمس .
الله عزَّ وجل خاطب الإنسان من خلال النبي بالقرآن ، وكلَّف النبي أن يوضِّح القرآن بالسُنَّة ، أودع فينا عقلاً ، وجبلنا جبلَّة هي الفطرة ، والواقع أمامنا ، فليس من العجيب إن رأيت الواقع يؤيد الفطرة ، يؤيِّد العقل ، يؤيِّد النقل ، ومع ذلك تتردَّد ، ومع ذلك تُحْجِم ، ومع ذلك تسوِّف ، ومع ذلك تتكاسل ، هذا شيء مستحيل ..
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
أين عقلكم ؟ أين فطرتكم ؟ أين الدراسات الواقعيَّة .
دعوة الإسلام متوافقة مع الواقع الموضوعي :
النبي عليه الصلاة والسلام دعانا إلى صيام الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر من كل شهر ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى علاقة دورة القمر بفورة الدم في الجسد ، هناك علاقة ، وهذه الأيام البيضاء الثلاثة النبي ندب إلى صيامها ، ولا سيما للشباب ، قرأت مرَّة مقالة : أن عالِماً اجتماعياً طلب من مخافر الشرطة في بلدٍ غربي التقارير اليوميَّة ، فجاء بهذه التقارير ، وقلَبها إلى التاريخ الهجري ، ورأى نسبة الحوادث ـ حوادث العنف ـ في اليوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، فوجدها تزداد ستين بالمائة على بقيَّة الأيَّام ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار من خلال أحاديثه إلى علاقة فورة الدم بدورة القمر ..
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
(سورة النجم)
أخٌ كريم قبل أيَّام زارني ، وقد استمع إلى محاضرةٍ من أستاذٍ في كليَّة الطب ، يقول هذا المحاضر : إن أخطر سرطانٍ في الإنسان سرطان الرئة ، وسببه التدخين ـ طبعاً السبب الأول ـ وسرطان الثدي ، ومن أسبابه تأخُّر زواج البنت ـ طبعاً لطبيعة الحياة المعقَّدة ، والمطالب الكبيرة ، والأزمات الخانقة هذه تساهم في تأخير الزواج ، لكن الذي لفت نظري في كلام الأخ الكريم ، أن أخطر سرطانٍ بعد سرطان الرئة والثدي هو سرطان المستقيم ، هذا تُرَجَّح أسبابه في الدرجة الأولى إلى نَخْل الدقيق ، وإلى الطعام النقي ، فعندما خلق ربنا عزَّ وجل حبة القمح ، وخلق لها قشرتها ، وأودع في القشرة الفيتامينات ، والمعادن ، ست فيتامينات ، وسبعة معادن كلُّها في قشور القمح ، ماذا نفعل نحن ؟ كما قال الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى :
﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾
(سورة النساء : من الآية 119)
ننزع قشور القمح ونرميها للدواب ، ونأكل النشاء الصرْف ، الخبز أبيض ، لكن قوامه نشاءٌ فقط ، أما الفيتامينات، المواد التي تعين على حركة الأمعاء في القشور ، والمعادن في القشور ، فكلَّما تقدَّم العلم كشف أن العقل الأول الذي صمَّم الكون صمَّمه في أبدع صورة ، ونحن نشوِّه حياتنا بتغيير خلق الله عزَّ وجل .
مرَّة ثانية : قِوام الرجل عقله ، عندما خلق الله العقل قال له :
((أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، بك آخذ وبك أعطي )) .
[من أحاديث الإحياء عن السيدة عائشة ]
أي أن الذي استعملك يستحقُّ عطائي ، والذي عطَّلك يستحق عقوبتي ، بك أعطي ، وبك آخذ، هناك عقل ، وميزان الشرع أمامك ؛ قرآنٌ كريم وسُنَّةٌ نبويَّةٌ مطهَّرة ، وهناك ميزان الواقع .
النبي الكريم أمرنا حينما نذبح ذبيحةً أن نذبحها من أوداجها دون أن نقطع الرقبة ، بعد مضي ألفٍ وخمسمائة عامٍ على هذا التوجيه النبوي ، جاء علماء الطب ، وبيَّنوا حكمة هذا الأمر ، قالوا : القلب له نبض ، وهذا النبض يتلقى الأمر فيه من مراكز كهربائيَّة في القلب نفسه ، لكن مراكز القلب التي تنبِّه القلب تنبِّهه تنبيهاً ثابتاً ، ثمانين ضربة في الدقيقة ، الإنسان أحياناً يواجه صعوبات ، يواجه جهدا ، يواجه أزمات، يأتيه أمرٌ من الدماغ فيرفع ضربات القلب ، فضربات القلب ، القلب نفسه يعطيها الأمر الراتب أي الثابت ، بينما الضربات الاستثنائيَّة تحتاج إلى أمر من الدماغ ، فإذا قُطِعَ رأس الذبيحة بقي القلب ينبض ثمانين نبضة في الدقيقة ، لا يكفي هذا النبض المُعتدل لإخراج الدمكلِّه من الذبيحة ، أما حينما نذبح أوداجها فقط ، ويبقى اتصالٌ عصبيٌ بين الدماغ وبين القلب في الذبيحة ، الدماغ يعطي أمرًا برفع الضربات إلى مائة وثمانين ضربة ، لذلك كل ما في الدابَّة من دم يخرج إلى خارجها ، هذا توجيه النبي عليه الصلاة والسلام.
صديقٌ لي في بلد أجنبي قال لي مرَّةً ، أسعار اللحوم المذبوحة وفق الشريعة الإسلاميَّة أغلى بكثير ، لأن هذا الدم له وزن ، فإذا خرج هذا الدم من الذبيحة أصبح لون اللحم ورديَّاً ، أما إذا بقي فيها أصبح لون الذبيحة أزرق تَمُجُّهُ النفس وتعافه ، وأمراض الدابَّة كلُّها في دمها .
هذا النبي في هذه التوجيهات العظيمة في ميزان الواقع ، كلَّما تقدَّم العلم اكتشف أن أكمل شيءٍهو تطبيق الشريعة ، طبعاً الإنسان يتلقَّى الأمر الإلهي على أساس أن هذا أمر الله عزَّ وجل ، ويطبِّقه إيماناً بالله عزَّ وجل ، ويكتشف العلم أن هذه الأوامر ليس في الإمكان أبدع منها ، هي أكمل شيءٍ ، طبعاً قِسْ على هذا كل شيء .
في أنظمة الزواج والطلاق ، مثلاً الله عزَّ وجل قال:
﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ﴾
(سورة الطلاق : من الآية 1)
هذا توجيه ، إذا خرجت المرأة من بيتها إلى بيت أهلها فإن أصغر قضيَّةٍ بين الزوجين تغدو أكبر قضيَّة ، وقد تنتهي بالطلاق ، وإذا بقيت في بيت زوجها ، أكبر قضيَّةٍ مع مضي الأيام تغدو أصغر قضيَّة ، هذا توجيه ، فإذا كان الإنسان من السعداء الذين يقرؤون كلام الله عزَّ وجل ، ويطبِّقونه في حياتهم ، يهتدون بهديه ، في شؤون العلاقات الاجتماعيَّة ، في شؤون الزواج ، في شؤون البيع والشراء ، في شؤون علاقة الإنسان بربِّه ، بمن حوله فإنه لا يقع في مثل هذا .
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ(156) ﴾
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ
هل معكم حجَّةٌ قاطعة ؟ معكم برهانٌ ساطع ؟ معكم دليل ؟ كأن الله عزَّ وجل يدعونا ، معك الدليل ؟ أين عقلك ؟ أين حجَّتك ؟ أين برهانك ؟
﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾
(سورة المؤمنون : من الآية 117)
﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾
أي أنهم قالوا : إنَّ الملائكة بنات الله ، وأن الجن لهم قرابةٌ بالله عزَّ وجل ، قرابة نسب ..
﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
أي تخرُّصات ، وإفكا ، ووَهْما ، وكلامًا من نوع الزور غير حقيقي ..
﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾
كلُّ ما في الكون خاضع لمشيئة الله :
كن فيكون ، زُل فيزول ، الجن مُحضر ، تحت الضرب دائماً ، كل من في الكون هو خاضعٌ لمشيئة الله عزَّ وجل ، فالإنسان أحياناً في عمله إذ كان مُسَيْطِراً ، كل من في دائرة عمله ينفِّذ أمره ، ولكن طبيعة النَسَب ، طبيعة القرابة تجعل الإنسان يقصر قليلاً ، أحياناً الابن لا يستجيب لوالده ، أو يتماطل في تنفيذ الأمر ، أما هؤلاء فليسوا أولاد الله عزَّ وجل ، هؤلاء مُحْضَرون ، هم عبيدٌ لله عزَّ وجل ، ومعنى عبيد لله أنهم في قبضته ..
﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾
أي أن هؤلاء الذين تزعمون أنهم بنات الله ، أو أن بينهم وبين الله نسباً ، هؤلاء ليسوا أولاده ، هم محضرون ، هم تحت مشيئته وإرادته ..
﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
سبحان الله : أي تنزَّهت أسماء الله عزَّ وجل ، تنزَّهت صفات الله عزَّ وجل ، تنزَّهت ذات الله عزَّ وجل عن أن يكون كذلك ..
هؤلاء الجن الذين عرفوا الله عزَّ وجل ، واستجابوا له ، هؤلاء مستثنون مما يقوله فيهم البشر ..
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(160)فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾
هذه آية دقيقة جداً ، أي أن البشر جميعاً ، والجن جميعاً ، وما يُعبد من دون الله من آلهة مزعومة ، من أصنام ، من أشخاص ..
﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾
أي كلُّكم مع من تعبدونه من دون الله لا تستطيعون أن تغيِّروا خطَّ إنسانٍ ، ولا سيره ، ولا أن تضلِّونه إطلاقاً ، الإنسان مخيَّر ، لا يستجيب لكم إلا من هو راغبٌ فيكم ، فالإنسان بكل ما أوتي من قوَّة ، بكل ما أوتي من حيلة ، لا يستطيع أن يسيِّر إنساناً تسييراً غير صحيح ، إلا أن يشاء الإنسان ذلك .
الإنسان مخير :
فملخَّص هذه الآية : أن لا أحد في كون الله يستطيع أن يضلَّ أحداً ، الذي فيما يبدو لنا أنه قد أضلَّ زيداً أو عُبيداً ، المضل والضال كلاهما توافقا على الضلالة ، لولا أن الذي ضل كان عنده استعدادٌ للضلال ورغبةٌ فيه لما استطاع المضلُّ أن يفعل فيه ذلك ، لولا أن الضال كان عنده رغبةٌ في الضلال وقبول له ما استطاع المضلُّ أن يضلَّه .
إذاً : في الحقيقة ليس هناك مُضِل ، وليس هناك مُضَل ، كل الناس مخيَّرون ، فالذي يقع في الضلال وقع فيه باختياره ، والذي أضلَّه فيما يبدو كان سبباً ظاهراً ، والحقيقة أنه استجاب لاختياره .
إذاً :
﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾
إلا من اختار الضلالة ، واستحقَّها ، وكان مصيره إلى الجحيم في علم الله عزَّ وجل ، هذا الذي يستجيب لكم ..
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾
كأن الملائكة استعاذوا بالله عزَّ وجل ، ونزَّهوا ذات الله عزَّ وجل عن أن يكون الذنب ، فقالوا :
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾
هؤلاء الذين عرفنا من سلوكهم أنهم يجهدون في إضلال البشر ، هؤلاء الجن مهما اجتمعوا فهم والإنس ، وما يعبدونهم من دون الله كل هؤلاء مجتمعين لا يستطيعون إضلال إنسانٍ واحد ، إلا أن يشاء الإنسان الضلال ، فإذا شاء الضلال يبدو للإنسان الساذج أنهم أضلُّوه ، لا ، لم يضلوه ، هو ضالٌ ، فتوافقت رغبته مع مسعاهم إذاً ضل .
قال :
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾
من الجن الذين آمنوا ، واتبعوا الحق ، وهم يسبِّحون ..
﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
أما الملائكة قالوا :
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾
مقامنا مقام العبوديِّة لله عزَّ وجل ، لسنا بنات الله ، مقامنا مقام العبوديِّة لله عزَّ وجل ..
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾
رحم الله عبداً عرف حدَّه فوقف عنده ، أنت إنسان مقامك معلوم ، المَلَك له مقام معلوم ، الجِن له مقام معلوم ..
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾
عبادة الملائكة ومقامهم :
أي أن مقامنا التسبيح ، والدعاء ، والذِكْرُ ، والصلاة ، مقام الملائكة ، رُكِّب المَلك من عقلٍ بلا شهوة ، وركِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل ، ورُكِّب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ..
﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾
أي نصطفًّ للصلاة.
﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾
في أكثر التفاسير التسبيح هنا هي الصلاة.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع الآيات ، والتي ربَّما كانت هي الدرس الأخير منسورة الصَّافَّات .
والحمد لله رب العالمين