مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سُورةُ النّسَاء

New Page 1

المقَاصِد النُّورَانيّة لِسُورَةِ النِّسَاء

العدل والرحمة مع الضعفاء أساس بناء لأمة
*****

 

النساء هن الوعاء الحاضن للنفس البشرية ككل , حيث تجد أن مهمة الرجل في الحياة هي السعي لكسب الرزق فيتعامل من خلال مسيرة حياته مع غيره من بني جلدته ويتعامل أيضا من جانب أخر مع الجماد والحيوان والنبات ,أما المرأة فإن مجالها وهدفها السامي الذي كرمها الله به أنه جعلها الحاضنة لأكرم مخلوقاته على الأرض وهو الإنسان .
 

 

 

 



إن مراحل (الطفولة) عند الحيوانات تجدها قصيرة بعض الشيء فربما تكون شهر أو شهرين وربما تصل إلى سنة أو سنتين, أما مرحلة الطفولة عند الإنسان تظل حتى 14 سنه, فهي أطول فترة حياة للطفولة للمخلوقات لماذا ؟

لأن مهمة هذه النفس البشرية جليلة و رفيعة وهي الخلافة في الأرض. وقد كرم الله هذه الطفولة بأن جعلها في حضانة امرأة تكريماً وتشريفاً ورحمةً من الله على هذا الطفل وإعلاءً لشأن المرأة التي سفهها وحقرتها جميع الأفكار الأخرى سواءً أكانت نصرانية أو يهودية أو غيرها من المعتقدات ,فانظر إلى رجل أمام القاضي يريد أخذ ابنه وضمه إليه بينما تقف زوجته في نفس الموقف والكل يعطى حجته ودليله في الأحقية بكفالة هذا الطفل, فتقول المرأة لزوجها: }لقد حملته أنت (قطرة ) لا حمل لها ووضعته شهوه ولكني حملته كرها على كره" وحمله وفصاله ثلاثون شهراً "{فبعد أن ذكر الله قصة السيدة مريم في سورة آل عمران ولم تكن نبيه أو رسوله ولكنها نذرت لله ما في بطنها تكليفاً فرفع الله شأنها في القرءان إظهاراً لهذا الدور في التربية وإنشاء النسل البشري .
 


" يا أيها الناس اتقوا ربكم"

*****

الحق سبحانه وتعالى عندما يخاطب الذين امنوا في كتابه الكريم فانتظر بعدها تكليفاً من الله ,لكنه سبحانه وتعالى يقول أنا لا أكلفك إلا ما كلفت به نفسك لأنك أمنت بي وما دمت أمنت برب قادر حكيم فأنصت واستمع,فقد دخلت باختيارك للإيمان ,فاستمع لمن أمنت به .فحين تختار طبيبا أنت اخترته لقدرته وحكمته وتفوقه فانه حين يأمرك بشيء فأنت مطيع له فتأتمر بأوامره وتنتهي بما نهاك عنه ولله المثل الأعلى .

 

 

 

 

"يا أيها الناس...اتقوا ربكم "فما معنى التقوى ؟

أول التقوى أن تؤمن به اله ....فحين تؤمن بالله سبحانه يعرض عليك ما يتوجب من الإيمان به والانتهاء عنه

ولم يقل الله اتقوا الله لأن لفظ الجلالة (الله) أساسه هو العبادة فيجب أن تعبده وتنصاع لأوامره ,فهم الآن في مرتبة الربوبية ولم يصلوا للعبودية,فذكر الله "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " ... فيا أيها الناس الذين يؤمنون بان الله هو ربهم الذي خلقهم فوجوب هذا الإيمان هو طاعة لله ,فأراد الله أن يجعل هذا الإيمان الذي لا جدال فيه ولا شك فيه أمراً لكل الناس مسلم كان أم كافر .

وقال الله تعالى :"وخلق منها زوجها " فخلق الله الذكر والأنثى من نفس واحده وخلق المرأة من ضلع آدم ,فأشار الله عز وجل إلى دليل أن خلق حواء من ضلع ادم ولم يفصل الله تعالى مراحل خلقها في المقابل أظهر الله تعالى تفصيل خلق ادم تفصيلا من تراب ومن ثم صلصال فاترك عنك الظنون .

لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم" وحيث أن الله تعالى لم يشهدهم ذلك الخلق فلا يوجد علم تجريبي لهذا الأمر فمن أذاع أمر نظرية تطور القرود إلى إنسان لا أساس له من الصحة لأنه لم يأتي بدليل, فلماذا لم تتحول باقي القردة إلى البشر ,فيقول الله للمضللين "وما كنت متخذ المضلين عضدا".

 

بنا نبدأ بمقاصد سوره النساء

*****
 

سورة النساء (سورة مدنية) نزلت بعد سورة الممتحنة وعدد آياتها (176) مائة وست وسبعون آية، وهي السورة الرابعة في ترتيب المصحف بعد سورة آل عمران.

سورة النساء هي سورة العدل والرحمة وخاصة مع الضعفاء فبعد أن حدّدت سورة البقرة مسؤولية المسلمين في الأرض وعرضت منهج الاستخلاف، جاءت سورة آل عمران لتدعو إلى الثبات على المنهج القويم وإلي المسؤولية الملقاة على عاتق المؤمنين. ثم جاءت سورة النساء لتعلمنا أن المستأمن على الأرض لا بد أن يكون على قدر من العدل والرحمة تجاه الضعفاء الذين استؤمنوا عليهم وكأن الصفة الأولى التي تميّز المسؤولين عن الأرض هي العدل, ولهذا فإن سورة النساء تتحدث عن حقوق الضعفاء في المجتمع, وتتحدث عن اليتامى والعبيد والخدم والورثة، كما تركز بشكل أساسي على النساء.

 

 

 

 

 

وكذلك فإنها تتحدث عن الأقليات غير المسلمة التي تعيش في كنف الإسلام وعن حقوقها بالإضافة التوجه إلى المستضعفين أنفسهم وكيف ينبغي عليهم التصرف في المواقف المختلفة. ويضاف إلى ذلك كله الحديث عن ابن السبيل وعن الوالدين وكيف يجب أن يُعاملوا, فهي سورة الرحمة وسورة العدل,ويتكرر في كل آية من آياتها ذكر الضعفاء والعدل والرحمة بشكل رائع يدلنا على عظمة الإعجاز القرءاني في التكرار دون أن يملّ القارئ.
 


سبب التسمية: بيتك أولاً

*****
 

سبب تسمية سورة النساء بهذا الاسم فهو أن المرء لو عدل مع زوجته في بيته ورحمها فإنه سيعرف كيف سيعدل مع بقية الضعفاء.فهي سورة المستضعفين وقد اختار الله نوعاً من أنواع المستضعفين وهم النساء , وكأن الله يخبرك : قبل أن أستأمنك على الأرض، أرني عدلك في بيتك، فلو عدلت ورحمت في بيتك فستكون مستأمناً للعدل في المجتمع، وإن العدل مع النساء في البيوت نموذج يقاس به عدل المسلمين في امتحان الاستخلاف على الأرض.

 

 

 

فهل سنجد بعد هذا من يدّعي بأن الإسلام يضطهد المرأة ولا يعدل معها؟

إن هذه الادّعاءات لن تنطلي على قارئ القرءان بعد الآن وخاصة مع الذي يقرأ سورة النساء، فهناك سورة كاملة تتناول العدل والرحمة معهنَّ، وقبلها سورة آل عمران التي عرضت السيدة مريم وامرأة عمران كنموذجين للثبات (كأن سورة آل عمران تمهّد لتكريم المرأة).

فتعالوا الآن أيها الأخوة نخوض في رحاب الآيات الكريمة ونجدد النية في أثناء قراءتها أن نعدل مع كل الناس خاصة مع الضعفاء منهم.

 

دعامة الاستخلاف هو العدل

*****
 

تبدأ السورة بداية واضحة في توضيح هدفها: (يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء...) (1) فهذه الآية تخبرنا بأن الأصل الإنساني واحد (مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ) فلما الظلم؟؟ وتبيّن الآية أن النساء قد خلقن من الرجال، وفي هذا دعوة صريحة للرأفة بهنّ كما في حديث النبي: "النساء شقائق الرجال". والملاحظ أن السورة بدأت بخطاب عالمي (يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ) بينما سورة المائدة بدأت بخطاب المؤمنين (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ) وذلك لأن العدل قانون عام للأمم كلها. فلا يمكن لأمة أن تسود في الأرض وهي ظالمة.. فالعدل أساس الملك وأساس الاستقرار وأساس الاستخلاف. وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(.. وأمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام..) 28/146 مجموع الفتاوى.

ولاحظ أن سورة النساء ابتدأت بنفس المعنى الذي ختمت به السورة التي قبلها: التقوى. فقد ختمت آل عمران بـ (وَٱتَّقُواْ ٱلله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(200) وابتدأت سورة النساء بـ(يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ) (1).

 

لا تأكل النار

*****
 

والآية الثانية تحذّر من ظلم نوع آخر من المستضعفين:(وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) ثم بعد ذلك يأتي قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ) كان العرب يربّون اليتيمة فينفقون عليها من مالها، فإذا كبرت وأراد أن يتزوجها وليها فقد يبخسها في مهرها، ولا يعطيها مهراً مثل ما يعطي غيرها من النساء، فأتت الآية لتدافع أيضاً عن تلك الفئة المستضعفة من النساء، وفي هذه الآية نرى القاعدة المشهورة في إباحة عدد الزوجات: العدل ثم العدل ثم العدل وإلا فواحدة. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً...).

 

المهر: حق الزوجة مع طيب نفس

*****
 

ثم تأتي الآية الرابعة لتقر حق الزوجة في المهر، وأهمية أن يعطيها الرجل مهرها "نحلة" أي عن طيب نفس(وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً).

 

 

 

 

 

 

فانظر أخي المسلم إلى هذه الرحمة المتبادلة بين الزوجين يرسّخها الإسلام في آية المهر, فالمطلوب من الرجل طيب النفس في العطاء، أما المرأة فهي مخيّره بين أن تحتفظ بحقّها أو أن تطيب نفسها ببعضه إكراماً لزوجها. آية رائعة في الجمع بين المطالبة بحق الزوجة وبين العلاقة الحميمة المتبادلة في العطاء عن طيب النفس.


 

العدل حتى مع السفهاء

*****
 

وتمضي الآيات لتحقق العدل مع فئات المجتمع المختلفة، حتى السفهاء من الناس (وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱلله لَكُمْ قِيَـٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا) (5) والسفهاء هم الذين لا يحسنون إدارة أموالهم بحيث لو أنه ترك معهم لتبدد بسرعة. فحتى هذه الفئة من الناس لا يجوز أن تظلم أو أن تستغلّ، كما يفعل البعض بحجة سفاهة صاحب المال.

ثم تأتي الآية السادسة أيضاً لتقرر حق اليتامى في مالهم إذا بلغوا سن الرشد (وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ).

والآية السابعة تقرّر حق المرأة في الميراث الذي حرمها منه بعض العرب في الجاهلية(لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضا).

والآية الثامنة تجمع بين العدل والإحسان (وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً).


 

إحفظ أولادك من بعدك بالعدل

*****
 


والآية التاسعة تصحح مفهوماً سائداً عند الناس (وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱلله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) كثير من الناس يأكلون الحرام ويعتدون على غيرهم بحجة أنهم يخافون على أولادهم بعد وفاتهم، لكن السورة تقول العكس: اعدل مع غيرك وقل قولاً سديداً يحفظ لك الله أولادك.

 

 

 

 

 

ثم تأتي الآية العاشرة لتحذِّر من الظلم تحذيراً شديداً (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

 

الميراث بالعدل

*****
 

وبعد ذلك تأتي أحكام الميراث للأولاد والبنات في الآية (11) (يُوصِيكُمُ ٱلله فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ...)هذا هو العدل لأن تقسيم الإرث ليس على أساس الأفضلية، وليس بنسبة متساوية بين الذكر والأنثى بل على أساس الواجبات والمسؤوليات لكل واحد منهما. فالرجل عنده مسؤولية النفقة على بيته وزوجته. بينما المرأة ليس عليها أي واجب للنفقة وإذا تزوجت فعلى زوجها أن ينفق عليها وتبقى لها حصتها من الإرث.

ثم الآية (12) تفصل الميراث بين الزوجين أيضاً بالعدل (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ) فباختصار أخي المسلم، كلما أحسست بأن العدل قد نقص من حياتك خاصة مع زوجتك، بيتك أو الضعفاء فعليك أن تقرأ سورة النساء: سورة العدل وأن تعرض نفسك على آياتها.

 

تلك حدود الله

*****

ثم تأتي آيتان (13-14) محوريتان في الترغيب بالعدل والترهيب من الظلم والتعدي على حدود الله(تِلْكَ حُدُودُ ٱلله وَمَن يُطِعِ ٱلله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ & وَمَن يَعْصِ ٱلله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـٰلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).



فماذا لو وقع الظلم من البشر؟

*****
 

تأتي الآية (17) لتجيب على السؤال مباشرة وتفتح باب التوبة (إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱلله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ ٱلله عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱلله عَلِيماً حَكِيماً).

 


شعار السورة: وعاشروهنّ بالمعروف

 

 

 

 

وتعود الآيات إلى الحديث عن العدل مع النساء (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً...) (19) فهذه الآية تحذّر من إرث النساء كرهاً (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ) (19).. فليس معنى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ) أن لا يظلم الرجل زوجته فحسب، بل إن العلماء قالوا بأن المعاشرة بالمعروف هي أن يتحمّل الرجل الأذى من زوجته ويصبر عليها ويرقق قلبها حتى يذهب عنها غضبها كما كان يفعل النبي r: وتمضي الآية لتقول (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱلله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (19).

 

وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً

*****
 

ثم تأتي الآية (20) (وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِينا)

هذه الآيات تجمع بين العدل والواقعية في التعامل مع المرأة، فأولاً: عاشروهنّ بالمعروف، ثم لو كرهتها فاصبر فإذا لم تقدر وأردت استبدال زوجة مكان زوجتك فإياك أن تأخذ من مهرها شيئاً، حتى لو كان قنطاراً أي مالاً كثيراً. والآية شديدة في هذا المعنى (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً).

لماذا ذكر البهتان هنا ؟ لأن العرب كانوا إذا أرادوا استبدال زوجتهم رموها بفاحشة (بهتاناً) حتى يدفعوها إلى رد كل ما يريدون من المهر، فوبّختهم الآية (20) بقوّة.

ثم تأتي آية من أروع الآيات القرءانية في ترقيق القلوب بين الزوجين من ناحية وفي تغليظ وتعظيم عقد الزواج من ناحية ثانية: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـٰقاً غَلِيظاً) (21) وكلمة (أفضى) تدلّ على عمق العلاقة بين الزوجين فتذكّر الزوج بعشرات الصور الجميلة قبل أن تسوء العلاقة مع زوجته، في الليل والنهار في غرفة النوم وفي النزهات.

وأما الميثاق الغليظ، فهو عقد النكاح أيها الرجل، عندما وضعتَ يدك بيد وليّ زوجتك وقلت "على كتاب الله وسنة رسوله". فهنا تحذير شديد لكل زوج من أن ينقِض هذا العهد الذي يُشهد الله عليه. والملفت أن عبارة (مّيثَـٰقاً غَلِيظاً) لم ترد في القرءان إلا ثلاث مرات: مرة مع الأنبياء، الذين أوفوا بهذا الميثاق الغليظ (سورة الأحزاب، الآية 7)،

ومرّة مع بني إسرائيل، الذين نقضوا الميثاق (سورة النساء الآية، 154) والمرة الثالثة هي معك أيها الزوج عند عقد القرءان.

 

من صور تكريم الإسلام للمرأة

*****
 

لقد ظلمت المرأة كثيراً عبر التاريخ فجاء الإسلام وأُنزلَت سورة النساء لتردّ لها حقوقها. فمن مظاهر الظلم التي كانت موجودة أن يرث الرجل كل ثروة أبيه، ويرث مع المال كلّ زوجاته - إلا أمه - إذلالاً لهنّ، فتأتي الآية (22) (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَـٰحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً) لتنهى عن هذه الفعلة الشنيعة.

 

 

 

 

وتتابع الآيات وتتحدث عن حقّ آخر هو حق الزواج من العبيد في الوقت الذي لم يكن هناك قانون يلتفت لحقوقهم فلو كان الرجل غير قادر على الزواج من المحصنات أي الحرائر وأراد الزواج بأمة فان الآية تقول.. (فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ولم تقل الآية (سيدهنّ). فالقرءان سمّى السيد بالأهل ليحثّ على الرحمة بهنّ ويراعي مشاعرهنّ (فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ) (25) أي ادفعوا لهن مهورهن عن طيب نفس، ولا تبخسوهن حقهن لكونهن إماء مملوكات.

 

ولا متخذات أخذان

*****
 

وبعد ذلك تخاطب الآية النساء (وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) وتحذرهن من العلاقات غير الشرعية مع الرجال (تحت عنوان المصاحبة) فالسورة تتحدث عن رحمة ورأفة الإسلام بالمرأة بأن لا يكون لها صديق عاشق لأنها ستشعر بالإحباط إذا تركها، وهو ما ستؤول إليه كل علاقة بدأت بمعصية.. وستتحطم سمعتها وحياتها في المستقبل. والنساء في هذه الحالة يشكلن نوعاً آخر من المستضعفين لأن قلوبهن رقيقة وعاطفتهن قوية. فيا أيتها البنات، أنتن غاليات عند الله تعالى والإسلام يحمي مشاعركن من أن يعبث بها شاب لاهٍ غير مسؤول.

 

تخفيف العقوبة على الضعفاء

*****
 

ما زلنا مع الآية (25) والتي تنص على مظهر رائع من مظاهر عدل الإسلام ورحمته مع الضعفاء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ) وهذا عكس ما نرى في القوانين الرومانية والهندية القديمة في تشديد العقوبة على الطبقات المتدينة وفي حين أن الإسلام يرأف بالطبقات الضعيفة ويخفف عنها العقوبة.

ثم تأتي الآيات (26 - 27 - 28) لتذكر رحمة الله ورأفته بالأمة المحمدية وبالبشرية كلّها. وهذا أيضاً من باب الرحمة بالضعفاء لأن الآية تقول (وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً) اقرأ معي الآيات وتأمل كيف يبين لنا الله رأفته وعدله ويذكرنا بضعفنا في وسط الآيات الكثيرة التي تدعو للرأفة بالضعفاء (يُرِيدُ ٱلله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱلله عَلِيمٌ حَكِيمٌ & وَٱلله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً & يُرِيدُ ٱلله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً).

 

العدل في الأموال والأنفس

*****
 

وبعد أن تناولت الآيات مظاهر العدل في مجالات مختلفة (المرأة ثم الأسرة ثم المجتمع) تنتقل إلى العدل في التجارة والمعاملات المالية (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ) (29) ثم إلى العدل مع الحياة البشرية وعدم سفك الدماء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱلله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً).


 

لا إفراط ولا تفريط

*****
 

وتأتي الآية (34) لتنظّم الضوابط داخل الأسرة المسلمة لأن الرجل قد يدفعه حرصه على العدل مع الزوجة إلى التراخي وعدم الحزم، وقد يترك زوجته تفعل أشياء خاطئة، فتعطينا الآية صورة من صور التوازن في الإسلام: الحزم مع العدل (ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ٱلله بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـفِظَـٰتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱلله وَٱللَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُن) فالمرأة مأمورة شرعاً بطاعة زوجها لتستقيم الحياة داخل البيت، فإذا أخطأت المرأة وكان الزوج يعطيها حقّها، فلا ينبغي أن يتركها تفعل ما تشاء (مخافة أن يظلمها)، فلا بد من الحزم هنا، وعدّدت الآية مراتب التأديب: الوعظ ثم الهجر في المضاجع ثم الضرب وينبغي التنبه إلى أن الضرب لا يكون إلا في حالة النشوز، وهو العصيان الشديد الذي قد يؤدي إلى دمار البيت، فالضرب إذاً حالة نادرة ولا يجوز أن يلجأ إليه الرجل متى شاء تحت حجة أن القرءان أمر به دون أن ينسى أن له ضوابط عديدة والهدف منه هو إشعار المرأة بالخطأ لا إشعارها بالألم.ولنا في رسول الله أسوة حسنة حيث أنه لم يضرب في حياته امرأة أو خادماً قط.

 

لا تظلم نفسك

*****
 

ثم تعود آيات السورة للحديث عن العدل فتحذّر من الشرك بالله (وَٱعْبُدُواْ ٱلله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) (36) لأن أعظم الظلم الشرك كما ورد في سورة لقمان (إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ثم توزّع الآية (36) العدل والإحسان على فئات المجتمع المختلفة وخاصة الضعيفة منها (وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً) أي الوالدين عند الكبر (وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱلله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً). أرأيت كيف تتوالى آيات السورة التي - وإن اختلفت في مضمونها - تصب وتخدم محوراً واحداً وهو العدل بكل أشكاله.

 

عوائق العدل والرحمة

*****
 

وبعد ذلك تتحدث السورة عن صفات مذمومة لو وجدت بشخصٍ لأثّرت سلباً في قدرته على العدل والرحمة بالضعفاء، فتبدأ الآية 37 بالحديث عن البخل (ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱلله مِن فَضْلِهِ) ومن ثم الرياء وحب الظهور الآية 38 (وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ رِئَـاء ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلله وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً).

 

إن الله لا يظلم مثقال ذرة

*****
 

بعد كل هذه الآداب يذكّرنا تعالى بفضله وكيف أنه يعاملنا بالفضل قبل العدل فكيف يأبى الإنسان أن يتعامل مع غيره بالعدل. (إِنَّ ٱلله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (40).

والآية التي بعدها تذكرنا أن النبي r سيشهد على عدلنا يوم القيامة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيدا) (41) فكأن الله يقول للظالم: إحذر فسوف يشهد النبي على ظلمك، ويقول للعادل: إفرح، فسوف يشهد حبيبك r على عدلك.

ثم تأتي آية محورية تمثّل قلب السورة (إِنَّ ٱلله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱلله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱلله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (58).

 

طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم أساس العدل

*****
 

وهذا المعنى واضح في الآية (59) التالية: (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱلله وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱلله وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱلله وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

فالاحتكام إلى شرع الله وردّ كل خلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله هما صمّام العدل والرحمة في المجتمع وإن بدا فيهما غير ذلك، كما هو واضح في الآية (64)، فإذا عصى المؤمن أوامر الله ورسوله فيكون قد ظلم نفسه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱلله وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱلله تَوَّاباً رَّحِيماً). فكيف نحقق تمام العدل؟ تجيب الآية (65) بوضوح شديد (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) يا مسلمون، اعرضوا أنفسكم على كتاب الله وعلى سنة النبي وسلّموا بحكم النبي، وإياكم أن تترددوا أو تتحرجوا من أوامر النبي لكي يشهد النبي على عدلكم في الآخرة.

 

القتال للحفاظ على حقوق المستضعفين

*****
 

وتتابع الآيات إلى أن تصل إلى ربع حزب كامل يتحدّث عن القتال من أول الآية (74) (فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱلله ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلاْخِرَةِ) ما علاقة هذا الربع بالعدل؟ إن استمرار العدل في المجتمع يتطلب وجود قوّة لتحافظ على حقوق المستَضعفين، فالقتال في الإسلام ليس للعدوان وليس هدفاً لذاته، وإنما هو وسيلة لهدف، ودليل ذلك الآية (75) (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلله وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّـٰلِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً). والملاحظ أن أكثر أحكام القتال وردت في سورة النساء، لأن النساء مصنع المجاهدين أولاً، ولأن المرأة مقاتلة في بيتها. فالمرأة التي يتعبها زوجها وتصبر على ظلمه تقاتل وتستشهد في بيتها كلّ يوم مئة مرّة. فكان إيراد أحكام القتال في السورة رسالة للمرأة لتقول لها (والله أعلم) أنك أيضاً مقاتلة في صبرك على زوجك وحمايتك لبيتك.

 

أثر الإعلام على العدل

*****
 

وتأتي في هذا الربع أيضاً آية مهمة، تخاطب الإعلاميين في كل زمان ومكان وتشير إلى أثر الإعلام على العدل (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلاْمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فالإعلام قد يكون بيئة مخيفة للقاضي وللرأي العام فتنقلب المفاهيم وتؤثر على حكم العادل، لذلك لا بد من ردّ الإشاعات إلى أولي الأمر وعدم التأويل والاستنباط. إنها رسالة واضحة للمسلمين في زماننا أن يمحّصوا ويتثبتوا مما تبثه وسائل الإعلام.

 

خطر النفاق

*****
 

وبعد ذلك يأتي ربع حزب كامل يتحدث عن خطورة المنافقين على المجتمع (فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱلله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ).وسبب ذكر المنافقين هو التنبيه إلى أن انتشارهم في المجتمع هو أعظم سبب لتضييع العدل وتضييع حقوق الضعفاء,فهم يفسدون المجتمع ويضيّعون قيمه وخاصة قيمة العدل.

 

 

 

 

وبعد ذلك تصل بنا الآيات إلى قمة العدل: العدل حتى أثناء القتال (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱلله فَتَبَيَّنُواْ) إنها الأخلاق الحربية التي كان الإسلام رائداً في الدعوة إليها.

 

كن إيجابياً لتنال العدل

*****



 

في كل الآيات السابقة كان القرءان يخاطب الأقوياء والمسؤولين ويأمرهم بالعدل مع الضعفاء والرحمة بهم. لكن القرءان في الآية 97 يطلب من المستضعفين الإيجابية والحركة وعدم الخضوع والهوان لكي لا يظنوا أن واجبهم في الأرض يقتصر على انتظار العدل واستجداء الرحمة من الناس (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱلله وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً).

 

القصر في الصلاة من رحمة الله بنا

*****
 

وبعد ذلك ينبهنا الله تعالى إلى رحمته التي يعامل بها خلقه وعباده، فتأتي الآية (101) لنتحدّث عن القصر في الصلاة وصلاة الخوف (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ...) فالله تعالى يلفت انتباهنا في هذه الآية إلى رحمته بنا لنرحم الناس.
 

 

 

 

مع الأقليات غير المسلمة

*****
 

وأخيراً نصل إلى العدل مع الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم. وذلك أن أحد المسلمين في عهد النبي r سرق واتّهم يهودياً. علِم مسلم آخر بالأمر وشهد زوراً حتى لا يتعرّض المسلم للحد وذلك تحت حجة الأخوة.

فنزلت الآيات تخاطب المسلمين خطاباً شديداً (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱلله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيما) (105) ثم تشتدّ اللهجة على الظالم (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً) (112) فشهد الله تعالى من فوق سبع سماوات ببراءة اليهودي مما نسب إليه ليرسخ في الإسلام هذه القواعد الحضارية في التعامل مع الديانات الأخرى.


 

عودة للنساء

*****
 

في أواخر السورة نرى عودة لبعض الأحكام المتعلقة بالنساء مع التركيز على ضوابط العدل والرحمة (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء قُلِ ٱلله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنّسَاء) (127) ونرى دعوة أخرى إلى العدل عند تعدد الزوجات (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ) (129) أي إلى واحدة منهم (فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ) (129) لا هي متزوجة ولا مطلّقة فهذا ظلم لها وسوء استعمال للصلاحية التي في يد الرجل.

 

كونوا قوّامين بالقسط

*****

 

 

 

لذلك نرى الآية (135) تذكرنا بهدف السورة بقوّة قبل ختامها:

(يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فقَيراً فَٱلله أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱلله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

وقوامين هي لفظة مبالغة تعني: شديدي القيام بالعدل. والآية تحذّرنا من اتباع الهوى لأنه عامل خطير في التسبب بظلم الناس.


 

ظلم أهل الكتاب

*****
 

ثم تنتقل السورة إلى انتقاد بعض أخطاء أهل الكتاب المتعلّقة بموضوع السورة وذلك لتحذير المسلمين من أفعالهم (فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (160) بسبب ظلمهم ضيّق الله عليهم الحلال. فماذا كانت مظاهر ظلمهم (وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱلله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ ٱلرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ) (161).

وتتناول الآيتان (171-172)(يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱلله إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱلله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَـئَامِنُواْ بِٱلله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱلله إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى ٱلسَّمَـٰوٰت وَمَا فِى ٱلاْرْضِ وَكَفَىٰ بِٱلله وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً) أيضاً انحراف عقيدة النصارى. وإيرادها هنا يخدم هدف السورة من ناحية أخرى: فإن سبب تحريف دينهم وكتابهم هو الاستضعاف والاضطهاد من الرومان للجيل الأول من النصارى. فكأن الرسالة هنا للمؤمنين: نصرة الدين وتقويته ودعمه حتى لا يبدل ويحرّف كما جرى مع أهل الكتب.وتأتي بعدها آيتان شديدتان في التحذير من الظلم (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱلله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا...) (168-169).

 

هذه سورة النساء، سورة العدل والرحمة مع كل طبقات المجتمع

******
 

ومما تميزت به هذه السورة أنها الأكثر إيراداً لأسماء الله الحسنى في أواخر آياتها (42 مرة). تشمل هذه الأسماء العلم والحكمة (عليم حكيم) أو القدرة والرحمة والمغفرة، وكلها تشير إلى عدل الله ورحمته وحكمته في القوانين التي سنّها لتحقيق العدل.

أخي المسلم، اقرأ سورة النساء بنية تطبيق العدل في حياتك، في بيتك وأهلك أولا (وخاصة زوجتك ووالديك)، ومع جيرانك وكل مجتمعك مهما يكن دينهم أو طبقتهم الاجتماعية.
 

جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب